المعتزلة وتفاسيرهم
09-10-2023
Web Design
15 Comments
المعتزلة حركة عقلانية استغلت الإسلام
كانت مدينة البصرة في العهد الأُمَويّ قد تحوّلت من معسكرٍ للجيوش الإسلامية إلى الحاضرةِ الثقافيةِ للدولةِ العربيةِ الاَخذةِ في الاتّساع، وأصبح مسجدها أول جامعة إسلامية يتخرّج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والأدب والشعر وسائر أبواب المعرفة المُتاحة في ذلك العصر.
في تلك الجامعة كان يشغل منصب الأستاذ الأكبر إمام وعالِم جليل هو الحسن البصري، الحسن بن يسار البصري (21 - 110 هـ) إمام وقاضٍ ومحدّث من علماء التابعين ومن أكثر الشخصيات البارزة في عصر صدر الإسلام. سكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم. تنقل الحسن البصري بين مدن عدة، أولاها المدينة المنورة مسقط رأسه ومكان نشأته الأولى، سافر إلى كابل مع فاتحيها، كما عمل كاتبًا للربيع بن زياد الحارثي في خراسان على عهد معاوية بن أبي سفيان، ثم استقر بالبصرة فنُسبَ إليها فاشتهر باسم «الحسن البصري».
ولد قبل سنتين من نهاية خلافة عمر بن الخطاب في المدينة عام واحد وعشرين من الهجرة، وأمه خيرة مولاة لأم سلمة أم المؤمنين كانت تخدمها، وربما أرسلتها في حاجاتها فيبكي الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة برضاعته لتسكته، وبذلك رضع من أم سلمة، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من أم المؤمنين زوجة رسول الله ﷺ. وكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، ودعا له عمر بن الخطاب، فقال: «اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس». حفظ الحسن القرآن في العاشرة من عمره، ونشأ في الحجاز بين الصحابة، ورأى عدداً منهم وعاش بين كبارهم، مما دفعه إلى التعلم منهم، والرواية عنهم، وحضر الجمعة مع عثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهد يوم استشهاده يوم تسلل عليه قتلته الدار، وكان عمره أربع عشرة سنة.
وفي سنة 37 هـ انتقل إلى البصرة، فكانت بها مرحلة التلقي والتعلم، حيث استمع إلى الصحابة الذين استقروا بها، وفي سنة 43 هـ عمل كاتبا في غزوة لأمير خراسان الربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وبعد رجوعه من الغزو استقر في البصرة حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها حتى وفاته.
وكان مجلسه يستقطب طلاب العِلم القادمين من مختلف البلدان، وكان من بينهم طالب نبيه وخطيب مُفوَّه أدهشَ القوم ببلاغته حين استغنى، وهو الألثغ الذي لا يُحسِن النُطق بحرف الراء، استغنى عن هذا الحرف في كلامه كله مؤدّياً المعنى نفسه للكلمات التي تتضمّن هذا الحرف باستخدام كلمات مُرادفة ليس فيها الراء.
هذا الألثغ الفصيح كان واصل بن عطاء،
أبو حذيفة واصل بن عطاء مؤسس الاعتزال، المعروف بالغزّال. يقول ابن خلّكان: «كان واصل أحد الأعاجيب ذلك أنّه كان ألثغ، قبح اللثغة في الرّاء فكان يخلّص كلامه من الرّاء ولايُفطَن لذلك، لاقتداره علي الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الرّاء علي كثرة تردّدها في الكلام حتّي كأنها ليست فيه.
ولد أبو حذيفة واصل بن عطاء في المدينة سنة 80 ه(699 م) ، و كان مولى لبني ضبّة أو لبني مخزوم. ثم ان واصلا هاجر إلى البصرة في مطلع حياته و لقي هنالك الحسن البصري، و الحسن في أواخر عمره. أما سبب الخلاف بينه و بين الحسن البصري فمبسوط في ترجمة الحسن.
و يبدو أن واصلا كان قد اتّصل بجهم بن صفوان (جهم بن صفوان (قتل 128 ه-746 م) ، كان يقول بالجبر (بأن الانسان مجبر على أعماله) و بخلق القرآن) و بشار بن برد (بشار بن برد (قتل 166 أو 167 أو 168 ه-781-784 م) ، و كان زنديقا قليل الاحتفال بأوامر الدين، و كان يفضل ابليس على آدم لأن ابليس من نار و آدم من تراب، و النار أفضل (في قول المانوية و قول بعض الفلاسفة) من التراب) و صادقهما من غير أن يتأثّر بآرائهما. و كذلك كان قد اتّصل بعمرو بن عبيد و أصهر اليه (عمرو بن عبيد (ت 144 ه-761 م) من الزهاد المشهورين و من أتباع واصل بن عطاء؛ و كان واصل قد تزوج أخت عمرو). و ألف واصل سوق الغزل بالبصرة، و كان يجالس فيه أبا عبد اللّه مولى قطن الهلالي (هنالك من يقول ان واصلا كان غزالا فعلا، و منهم من يقول ان واصلا كان يجلس في سوق الغزل لأن اللواتي يعملن في غزل الصوف في بيوتهن يكن من المتعففات المحتاجات؛ فكان واصل يتصدق عليهن)، فلقّب بالغزّال.
و توفّي واصل سنة 131 ه(748 م) .
واصل بن عطاء رأس المعتزلة الذين يقدّمون العقل (الأخذ بما يوجبه العقل و المنطق) على النقل (الاخبار من طريق الرواية الدينية) إذا تعارض العقل و النقل. و يقول واصل بأربع قواعد:
(أ) نفي الصفات عن اللّه (لأننا لو قلنا ان للّه صفة كالعلم و الارادة و السمع الخ. . . لاقتضى أن تكون تلك الصفة قديمة، فتشارك اللّه في القدم؛ و القدم أخص صفاته فكأننا نقول حينئذ بقديمين، أي إلهين.
(ب) القول بالقدر، أي بقدرة الانسان على أعماله (إن الانسان مخيّر يفعل الخير و الشر باختياره و ارادته) .
(ج) القول بالمنزلة بين المنزلتين (إن مرتكب الذنب الكبير ليس مؤمنا حقّا و لا كافرا مطلقا، و لكنّه فاسق: بين المؤمن و الكافر) .
(د) كان أهل السنّة و الجماعة (المسلمون الأولون) يعتقدون أن المسلمين الذين اقتتلوا في معركة الجمل و معركة صفّين ليسوا مخطئين لأن كل فريق اجتهد برأيه و عمل باجتهاده فهو مصيب في ما قصده و لا ذنب عليه. و لكنّ واصلا قال: إنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة.
(ه) الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: هذا الأصل يوضّح موقف المُعتزِلة من أصحاب الكبائر سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغَلَبة الظن بحصول الغَلَبة وإزالة المُنكر.
جاء واصل من المدينة المنوّرة إلى البصرة لكي يندمج في جوّها الفكري والثقافي ويطلّع على أفكار أصحاب المِلل غير الإسلامية وعلى معتقداتهم، ولاسيما الثنوية منهم والمسيحيين الذين اطّلع منهم على أفكار يوحنا الدمشقي الذي دخل في سِجالات وكتبَ ومؤلّفات تُدافع عن عقيدته المسيحية.
يوحنا الدمشقي
ولد باسم يوحنا منصور بن سرجون عام 676 فى دمشق خلال حكم الدولة الأموية، من عائلة مسيحية نافذة إذ كان والده يعمل وزيرًا فى بلاط الخلافة الأموية وكذلك كان يعمل جده رئيسًا لديوان الجباية المالية فيها، وقد شغل يوحنا الدمشقى نفسه هذه الوظيفة فترة من الزمن،
علاقة أسرة يوحنا الدمشقي بالمسلمين بدأت مع الحصار الذي فرضه الجيش العربي على مدينة دمشق في عام 634م/13ه، وهو الحصار الذي انتهى بتسليم المدينة صلحًا. ولعبت أسرة يوحنا الدمشقي نفسها دورًا مهمًا في الاتفاق على الصلح والتسليم، وأدارت المفاوضات بنجاح مع قائد المسلمين أبي عبيدة بن الجراح.
مشاركة منصور بن سرجون في الشؤون الإدارية للدولة الأموية بدأت بشكل عملي في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، إذ عُين بعد وفاة أبيه في منصب متولي الخراج والجزية، والمشرف على شؤون المسيحيين الموجودين بدمشق. واستمر محافظًا على هذا المنصب في عهد ابني عبد الملك -الوليد وسليمان- حتى إذا ما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، واشتدت قبضة السلطة الأموية على المسيحيين، آثر منصور بن سرجون أن يترك منصبه واختار أن يعيش حياة الرهبنة في دير القديس سابا في أورشليم بفلسطين، وفي تلك المرحلة سمى نفسه باسم يوحنا.
ومن ثم دخل إلى دير القديس سابا قرب القدس فى فلسطين بعد بداية خلافة هشام بن عبد الملك، وقد جمعته صداقة معه ومع عدد من الخلفاء قبله.
دافع يوحنا الدمشقى عن استخدام الأيقونات والصور كوسيلة للتكريم ومعاملتها معاملة الإنجيل نفسه، مشددًا على أن المكرم ليس هو مادة الصورة بل ما تمثله.
من القصص المشهورة التي ارتبطت بتحول يوحنا الدمشقي إلى الرهبنة، تلك القصة الخوارقية المتصلة بشرح الأيقونة المشهورة باسم "العذراء ذات الثلاثة أيدي". تذكر القصة أن الإمبراطور البيزنطي لما أراد أن يوقع بيوحنا بسبب دعمه لتقديس الأيقونات، فإنه استحضر مجموعة من الكتبة المهرة، وأمرهم بكتابة رسالة بخط يوحنا الدمشقي، ثم أرسل بها إلى الخليفة الأموي، فلما وقعت في يديه وقرأها، وجدها قد احتوت على اتفاق بين الإمبراطور ويوحنا على تسليم دمشق للبيزنطيين، فاستشاط الخليفة غضبًا، واستدعى يوحنا وقطع يده اليمنى.
وبحسب القصة، فإن يوحنا صلى كثيرًا أمام أيقونة العذراء. فلما نام رأى القديسة مريم، وأخبرته بأنها ستعيد يده إليه، ولما استيقظ وجد يده في مكانها! وسرعان ما انتشر الخبر ووصل للخليفة. ولما سمع قصة يوحنا، ندم على إساءة الظن به، وطلب منه أن يعود إلى منصبه، لكن يوحنا رفض ذلك وسافر لفلسطين لينتظم في سلك الرهبنة.
في دير القديس سابا بفلسطين، ناقش يوحنا الدمشقي الإسلام المبكر في كتابه المعروف باسم "الهرطقات"، وذلك في الفصل رقم مائة في بعض الترجمات، وفي الفصل رقم مائة وواحد في ترجمات أخرى. أولى الملاحظات التي تشد انتباه قارئ الكتاب، أن يوحنا لم يطلق على الإسلام هذا الاسم أبدًا، إذ نجده يسمي المسلمين بالإسماعيليين -نسبةً إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم- تارةً، أو يطلق عليهم اسم الهاجريين -نسبةً إلى السيدة هاجر- تارة أخرى. في السياق نفسه، سنجد أن الدمشقي قد أطلق على العرب اسم "الساراسين"، وهو أحد الاسماء التي كان يطلقها الرومان على العرب في منطقة الشام والجزيرة.
كما أن هذا الراهِب الذي نشأ في عائلةٍ عربيةٍ مسيحيةٍ تولّت مناصبَ مهمّة في البلاط الأموي، كان يقول بمبدأ الاختيار، أي إن الإنسان مُخيَّر في أفعاله وليس مسيّراً. وقد ظهر أثر هذا الاحتكاك مع هؤلاء عبر التركيز على توحيد الذات الإلهية في الأصول الخمسة التي قام عليها منهج أهل العدل والتوحيد الذين عُرِفوا باسم المُعتزِلة.
وكان واصل، الطالب، شديد الإعجاب بذكاء أستاذه وسِعة معرفته وأحاطته بالقضايا الفقهية التي دفعت الخليفة عمر بن الخطاب إلى توليته قضاء البصرة. غير أن الخلاف ما لبث أن وقع بين التلميذ وأستاذه في مسألة كانت موضوع جدلٍ واسعٍ في الأوساط الدينية وهي مسألة مُرتكب الكبيرة. والمقصود بذلك مَن يتعمّد ارتكاب الذنب الذي جاء فيه حدٌّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كالشرك بالله تعالى مثلاً، أو قتل النفس ظلماً أو ترك الصلاة وغير ذلك من عِظم الذنوب.
بدأ الخلاف عندما سُئل الحسن البصري عن مُرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر؟ فأجاب أنه مؤمن عاصٍ. فاعترض عليه واصل بأن مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين منزلة بين منزلتين، أي بين الكفر والإيمان، وأنه ليس مؤمن ولا عاصٍ. ثم اعتزل مجلسَ الحسن البصري. فقال الحسن: "لقد اعتزلنا واصل" فسُمّي هو وأتباعه بالمُعتزِلة، أما المُعتزِلة فقد سمّوا أنفسهم" أصحاب العدل والتوحيد".
واتّخذ واصل بن عطاء لنفسه مجلساً مستقلاً في المسجد أخذ يدرّس فيه منهجه الفكري القائم أساساً على تقديم العقل على النقل في المسائل الدينية، فيما كان رأي الحسن والجمهور تقديم النقل على العقل.
وهكذا كانت بداية أول مدرسة عقلانية إسلامية ما لبثت أن لعبت دوراً خطيراً في الحياة الفكرية والعقائدية في المجتمع الإسلامي. وكانت وراء ما سُمّي بمحنةِ خَلْق القرآن التي بدأت في عهد المأمون. وذلك أن المُعتزِلة يرون أن القرآن كلام الله وهو مخلوق الله تعالى، أي أنه مُحدَث وليس جزءاً من ذاته قديماً بقدمه، كما تقول المُشبِّهة. بينما ينظر الأشاعرة وغيرهم إلى كلام الله على أنه صفة ذات لله. في حين ينظر المُعتزِلة إلى كلام الله على أنه صفةُ فعلٍ لله، أي أن الله خلق كلاماً أي أحدثه.
ويُقال إن يوحنا الدمشقي ألزم الأشاعرة بقِدم المسيح وأزليّته بما أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، والكلمة قديمة في رأي المُعتزِلة.
لم تكن قضية مُرتكِب الكبيرة سوى منطلق لنشر منهج التفكير العقلاني في القضايا الدينية وما يترتّب على ذلك من نتائج اجتماعية وسياسية. وذلك أن التعارُض الناشىء بين أصحاب المنهج العقلي وبين المحافظين القائلين بتغليب النقل على العقل، ينطوي على أبعادٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ محورها الموقف من الحاكم الجائر هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.
وكان رأي واصل ومَن جاء بعده من رؤساء المُعتزِلة هو القيام على الحاكم الظالم والمقصود يومها الحُكم الأموي. وأما رأي الحسن البصري فهو السّمع والطاعة للحاكم مهما بلغ من الجور أو الخروج على الشريعة درءاً للفتنة. مع العِلم أن الحسن البصري كان يرى أن حُكم بني أميّة فيه ظلم وجور لكنهم أقوياء وليس بإمكان المعارضة أن تقف في وجههم ما يترتّب عليه سفك الدماء.
قام منهج الاعتزال على خمسة أصول اتفقوا عليها على الرغم من الانشقاقات التي تعرّض لها هذا التيار العقلاني، حتى أصبح فِرقاً مُتعدّدة نسبت كل واحدة منها إلى مؤسّسها. وأشهر أعلامهم: الكندي، أبو علي الجُبائي وابنه إبراهيم، بشر بن معتمر، القاضي عبد الجبار، الزمخشري، العلّاف، النظّام، الجاحِظ.
أما الأصول الخمسة لمذهبهم فهي:
التوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وتنزيهه عن الجسمية والجوهرية والعرضية.
العدل: يعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وأن الإنسان حرّ في أفعاله. وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أموراً. فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده وقالوا إن العباد هم الخالقون لأفعالهم بأنفسهم إن خيراً وإن شراً. وذلك خلافاً للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. والجبر هنا ينطوي من قِبَل القائلين به على بُعدٍ اجتماعي وسياسي لكونه نوعاً من الدعوة إلى السكوت على الحاكم الظالم بحجّة أن جوره مكتوب عليه، وأن ليس في اليد حيلة أمام ما يقدّره الله تعالى.
المنزلة بين المنزلتين: وهم يرون أن الفاسِق في الدنيا لا يُسمّى كافراً ولا يُسمّى مؤمناً بوجهٍ من الوجوه، بل هو في منزلةٍ بين هاتين المنزلتين، فإن تابَ رجع إلى إيمانه وإن مات مُصرّاً على فسقه كان من المُخلّدين في النار.
الوعد والوعيد: المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار. على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعةٍ وتوبةٍ استحقّ الثواب والعوض. وإذا خرج على غير توبة عن كبيرةٍ ارتكبها استحق الخلود في النار لكن عِقابه يكون أخفّ من عِقاب الكفّار. وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.
الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: هذا الأصل يوضّح موقف المُعتزِلة من أصحاب الكبائر سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغَلَبة الظن بحصول الغَلَبة وإزالة المُنكر.
ومن أبرز منظري المعتزلة أيضًا:
أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135- 226هـ/ 753- 841م) شيخ المعتزلة، ومقدم الطائفة، ومقرر الطريقة، والمناظر عليها، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، وتُنسب إليه فرقة الهذيلية.
وأيضًا إبراهيم بن يسار بن هانئ النظَّام (ت 231هـ/ 846م) وقد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، وتُنسب إليه فرقة النظاميّة.
ومنهم أيضًا معمر بن عباد السلمي (ت 220هـ/ 835م) وهو من أعظم القدريّة فِرْيةً في تدقيق القول بنفي الصفات، ونفي القدر خيره وشره عن الله تعالى، والتكفير والتضليل على ذلك ، وتُنسب إليه فرقة المعمرية.
ومنهم عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (ت 226هـ/ 841م)، وكان يقال له: راهب المعتزلة ، وقد عُرف عنه التوسُّع في التكفير حتى كفّر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتُنسب إليه فرقة المردارية.
وأيضًا ثمامة بن أشرس النميري (ت 213هـ/ 828م) كان جامعًا بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق، وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتُسمَّى فرقته الثماميّة.
ومن أبرز منظري المعتزلة أيضًا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 256هـ/ 870م) وهو من كبار كُتَّاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظرًا لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدسّ أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم، مثل البيان والتبيين، وتُسمى فرقته الجاحظية.
وكذلك أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (ت 300هـ/ 913م) من معتزلة بغداد، وبدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة، وتسمى فرقته الخياطية.
ومنهم أيضًا القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (ت 414هـ/ 1023م) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الرَّيّ وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرّخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية. هؤلاء هم أشهر منظري المعتزلة.
تطور المعتزلة وانقسامها
من خصائص الفكرة المبتدعة -ومثلها في ذلك مثل كل الأفكار البشرية الاعتقادية- أنها عادة تبدأ بسيطة ساذجة في اللفظ والمعنى، ثم لا تلبث أن تتعقد وتتفرع، بل تتغير وتتبدل، ثم تتناقض وتتضارب، وإذا كثير من مبادئها الأوليّة قد تغيرت بشكل تام، وهي في كل ذلك تسير من سيئ إلى أسوأ، وتزداد انحرافًا وبعدًا عن السُّنَّة، وما ذلك إلا لاعتمادها على العقل فيما لا يدركه العقل؛
لذلك قد قيل: إن صاحب البدعة لا تقبل له توبة، فهو ينتقل من حال إلى حال أسوأ كلما أوغل في بدعته. أما من تمسك بالنصوص الثابتة الجلية، والقواعد الصحيحة البينة فلا مجال لانحرافه؛ إذ إن الأمر دائر بين ثبوت النص وقواعد الفقه فيه، وهما أمران واضحان عند أهل السنة والجماعة حسب منهجهم. وقد ظهر ذلك الأمر جليًّا في فكر المعتزلة وتطور مقالاتهم خلال ثلاثة قرون هي فترة حياة الاعتزال كفرقة مستقلة واضحة.
فقد افترقت المعتزلة فيما بينها عشرين فرقة، كل فرقة منها تكفِّر سائرها، وهذه الفرق هي الواصلية، والعمرية، والهذيلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمردارية، والهشامية، والتمامية، والجاحظية، والحايطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمويسية، والشحامية، والكعبية، والجبابية، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم بن الحبالى. فهذه ثنتان وعشرون فرقة، فرقتان منها من جملة مائة وأربعين من فرق الغلاة في الكفر، وهما الحايطية والحمارية، وعشرون منها قدرية محضة.
ومن الواضح أن كل فرقة من هذه الفرق قد تسمت باسم مؤسسها، فالواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء، والهذلية نسبة إلى أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف، وهكذا، وقد اتفقوا في الأصول أو المبادئ الخمسة التي سبق ذكرها، واختلفوا في غيرها.
المراحل التي مرت بها فرقة المعتزلة
ظهرت المعتزلة كفرقة فكرية في أوائل القرن الثاني الهجري، إلا أنها -مع ذلك- كان لها نشاط سياسي ودور كبير على مسح الأحداث خاصة في بعض فترات العصر العباسي وإبّان الدولة البويهية الشيعية.
ويمكن تقسيم المراحل السياسية للمعتزلة على هذا النحو:
المرحلة الأولى: تكوُّن الفرقة ونشأتها في العصر الأموي.المرحلة الثانية: المعتزلة في العصر العباسي.المرحلة الثالثة: في عصر المتوكل (عصر الضعف).المرحلة الرابعة: في عصر البويهيين (عصر النشاط الثاني).المرحلة الخامسة: انحلال المعتزلة كفرقة وذوبانها في الفرق الأخرى.
سبق أن ذكرنا أن بدايات نشأة المعتزلة كانت حين اعتزل واصل بن عطاء حلقة شيخه الحسن البصري، كان ذلك في عهد الدولة الأموية، والتي كان لشيوخ الفكر الاعتزالي الأوائل من القدرية والجهمية دور كبير في كثير من الحركات التي خرجت عليها، فلقوا جزاءً شديدًا نتيجة الموقف المعادي للدولة الأموية،
فقد خرج معبد الجهني -وهو أول من قال بالقدر- على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث في حركته التي كادت تقضي على حكم الأمويين، وقد قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بعد فشل الحركة عام 80هـ.وكذلك خرج الجهم بن صفوان -الذي قال بنفي الصفات وخلق القرآن- مع الحارث بن سريج على بني أمية، فقتله سالم بن أحوز في مرو عام 128هـ بعد فشل الحركة. أما غيلان الدمشقي فقد جرت بينه وبين عمر بن عبد العزيز مناقشات بشأن القدر، فأمسك غيلان عن الكلام فيه حتى مات عمر بن عبد العزيز، ثم أكمل بدعته حتى قتله هشام بن عبد الملك. وأما الجعد بن درهم فقد قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة بعد استفحال أمره.
ثم تأتي مرحلة قوة المعتزلة حيث الخلافة العباسية، فقد برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، وهو أحد رءوس بدعة الاعتزال في عصره، ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضيًا للقضاة في عهد المعتصم، وفي فتنة خلق القرآن امتُحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسُجن وعُذِّب وضُرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون، وبقي في السجن مدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق.
ولما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ أظهر الانتصار للسُّنَّة، فأمر بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكفِّ عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلّم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت، وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأمر بإكرام الإمام أحمد إكرامًا عظيمًا، وقتل محمد بن عبد الملك بن الزيات الذي سعى في قتل أحمد بن نصر وكان سببًا في محنة الإمام أحمد، وأمر بدفن جثمان أحمد بن نصر الذي كان ما زال معلقًا مصلوبًا منذ قتله الواثق.
وهكذا انتهت تلك السنوات التي استطال فيها المعتزلة وسيطروا على السلطة وحاولوا فرض عقائدهم بالقوة والإرهاب خلال أربعة عشر عامًا كاملة. وفي عهد دولة بني بويه عام 334هـ في بلاد فارس -وكانت دولة شيعية- توطدت العلاقة بين الشيعة والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة، فعيِّن القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضيًا لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، وهو من الروافض المعتزلة، يقول فيه الذهبي: "وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعًا"[الذهبي: سير أعلام النبلاء 16/512]. ويقول المقريزي: "إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر". وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: "وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد"[الذهبي: سير أعلام النبلاء.]. وبعد ذلك كاد ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم.
ثم تأتي مرحلة انحلال وذوبان المعتزلة في التشيع، وقد بدأت تلك المرحلة منذ بدأ التزاوج بين الرفض والاعتزال، ومن الواضح أن الرافضة قد تأثروا بمناهج الفكر الاعتزالي بشكل قوي، فنقلوه وهضموه خاصة في مسائل الصفات والقدر، كذلك في محاولتهم الإيهام بتعظيم دور العقل، مع أن أصل مذهبهم يقوم على أمور غير معقولة -كالإمام الغائب الذي ينتظرون رجعته كل ليلة- وكذلك تبني المعتزلة تدريجيًّا فكر الشيعة المنحرف؛ ليضمنوا القوة والاستمرار في ظل دول الرافضة، فذاب الاعتزال في التشيع، وانتهت المعتزلة كفرقة مستقلة منذ ذلك الحين.
ص - تفاسير المعتزلة
ولنبدأ بكتاب الكشاف للزمخشري ثم كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وهما نموذجان من تفاسير أهل الكلام من المعتزلة.
كتاب الكشاف:
أما كتاب الكشاف فصاحبه هو محمود بن عمر بن محمد بن عمر النحوي اللغوي المعتزلي الملقب بجار الله ولد سنة ٤٦٧ هـ سبع وستين وأربعمائة وتوفي سنة ٥٣٨ ثمان وثلاثين وخمسمائة بعد أن برع في اللغة والأدب والنحو ومعرفة أنساب العرب حتى فاق أقرانه ثم تظاهر بالاعتزال ودعا إليه وكتابه خير كتاب أو من خير الكتب التي يرجع إليها في التفسير من ناحية البلاغة رغم نزعته الاعتزالية وأغلب التفاسير من بعده أخذت منه واعتمدت عليه.
ويمتاز الكشاف بأمور منها خلوه من الحشو والتطويل ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا ويعنون السؤال بكلمة إن قلت بفتح التاء ويعنون الجواب بكلمة قلت بضم التاء وللكشاف حواش كثيرة منها حاشية ابن كمال باشا زادة وحاشية علاء الدين المعروف بالبهلوان وحاشية الشيخ حيدر وحاشية الرهاوي.
وإليك مواضع من كتابه ينحو فيها نحو الاعتزال ويقرر عقيدة القول بالمنزلة بين المنزلتين وبأن أفعال العباد مخلوقة لهم وبأن رؤية الله في الدار الآخرة مستحيلة.
١ - يقول عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الخ ما نصه فإن قلت ما الإيمان الصحيح قلت أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اهـ فأنت تراه فسر الإيمان بما يثبت به المنزلة بين المنزلتين ... وهي منزلة الفاسق بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر فينفي الإيمان عن سليم العقيدة ما دام أنه قد أخل بواجب العمل وهو محجوج من أهل السنة بأن هذا التفسير لا يوافق اللغة ولا الشرع أما اللغة فلأن معنى الإيمان التصديق لا غير وكذا الشرع بدليل عطف العمل عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين.
٢ - ويقول في تفسير قوله سبحانه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ما نصه وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله اهـ وهذا منه إيماء ورمز إلى أن الرزق الحلال من الله وأن الرزق الحرام من العبد.
ويرد عليه أهل السنة بقوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فالله هو الخالق الرازق لا غيره سواء أكان الرزق حلالا أم حراما.
٣ - في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الخ ما نصه:
فإن قلت لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح بدليل: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الخ ما قال: ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام استعارة أو مجاز على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه وهذا المذهب يلزمه في نظر أهل السنة أمور كلها باطلة:
منها مخالفة الدليل العقلي القائم على وحدانية الله تعالى وأنه لا شيء من الكائنات إلا وهو أثر من آثار القادر لا غيره.
ومنها مخالفة الدليل النقلي كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
ومنها القول بأن هذه الأشياء نفذ فيها مراد الشيطان أو الكافر بخلاف مراد الله وهذا أشنع ما يقال.
ومنها قياس الغائب على الشاهد إذ جعلوا المنع من قبول الحق قبيحا من الله قياسا على قبحه منا.
ومنها الجهل بحقيقة الظلم وحقيقته أنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه ولا ملك إلا الله {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فلا ظلم في فعله تعالى على أي وجه كان.
ومنها أن ما تمسكوا به من أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها عليهم ولما عاقبهم بها ولما قامت له حجة عليهم كل ذلك مبني على قاعدتهم الخاطئة من التحسين والتقبيح العقليين وعلى قياسهم الغائب على الشاهد كما سبق وكلا هذين لا يسلم لهم ثم يرد عليهم بالمثل فيقال لهم يقبح من الشاهد أن يمكن غيره من فعل شيء ثم يعاقبه عليه فكذلك الغائب وأنتم تقولون إن القدرة التي يخلق بها العبد فعله في زعمكم هي مخلوقة لله تعالى مع علمه بما سيفعله العبد بها ولا يخفى أن ذلك بمثابة إعطاء سيف لمن يبغي به على الناس وذلك قبيح في الشاهد فهو قبيح في الغائب وما تجيبون به عن هذه نجيبكم به عن تلك فالجواب هو الجواب.
٤ - ويقول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ما نصه: ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي رضوان الله والنعيم المخلد اهـ وأنت ترى أن في ذلك تعريضا بإنكار رؤية الله إذ يصرح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها مع أنه لم يذكر الرؤية وقد صرح بإنكارها في سورة الأنعام إذ قال في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ما نصه البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به تدرك المبصرات فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال عن أن يكون مبصرا في ذاته إذ الأبصار إنما يتعلق بما كان في جهة أصالة أو تبعا وذلك كالأجسام والهيئات اهـ.
ويرد عليه أهل السنة أولا بأن الإدراك المنفي عبارة عن الإحاطة ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي أحاط به وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي محاط بنا فالمنفي إذن عن الأبصار إحاطتها به عز وجل لا مجرد الرؤية ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام وهذا لا يمنع أن تعرفه فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للبصر وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ثابت غير منفي.
ثانيا أن الزمخشري لم يذكر على إحاطة الرؤية عقلا دليلا ولا شبه دليل سوى أنه يكون المرئي لا في جهة وهذا نعارضه بالمثل فنقول يلزمكم استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ الاتباع للوهم ببعدهما جميعا والانقياد للعقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا.
وحسبنا هذا فحبل النقاش بين أهل السنة والمعتزلة طويل وميدان الأخذ والرد بينهما علم الكلام فارجع إليه إن شئت المزيد عصمني الله وإياك من الزلل ووفقنا للقصد في الاعتقاد والعمل آمين.
كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن:
مؤلفه هو القاضي عبد الجبار بن أحمد بن الخليل وكنيته أبو الحسن البغدادي برع في علم الكلام وفاق أهل زمانه ووضع كتبا جليلة وإليه انتهت رياسة المعتزلة ومشيختها فصاروا يأخذون برأيه ويعتمدون على كتبه إلى أن توفى سنة ٤١٥ خمس عشرة وأربعمائة وله مصنفات كثيرة من أهمها كتابه هذا تنزيه القرآن عن المطاعن.
وهو مرتب على مسائل تتضمن سؤالا وجوابه ولم تكن همته تفسير القرآن بل كان كل همه موجها نحو تأييد مذهبه لذلك تراه لم يفسر جميع القرآن بل يذكر من السورة الآية التي يستطيع أن يؤولها على مقتضى عقيدته ويؤيد بها مذهب المعتزلة على نمط ما فعل الزمخشري في الأمثلة التي بين يديك وهذا الكتاب يحتوي كثيرا من الفوائد على رغم تعصبه المذهبي وعدم عنايته بالتفسير كما يجب.
(ملتقطات / ومن كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني)
والحمد لله رب العالمين.
0 Comments
No comments yet.
Leave a Comment
© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso