منهج القرآن في التعامل مع الشبهات-٢
06-08-2024
Web Design
15 Comments
القاعدة السابعة: ضم نظائر الشبهة إليها
اعتنى القرآن الكريم بذكر نظائر الشبهة التي يوردها، وإن اختلف زمان القول بها، أو اختلف أصحابها، وهو بذلك يؤصل قاعدة مهمة من قواعد الرد على الشبهات؛ حيث إن ضم النظائر يخالف مقصود المبطلين بإظهار كثرتها، والاستعانة بالقديم منها لتقوية الجديد، كما أنه يُعد بعبارة أخرى رصدًا لتاريخ الشبهة الذي يسهم في كشف جذورها في مقالات المتقدمين والمتأخرين، وتجلية أدلتها، ويعطي تصورا شاملا لجوانبها، ويبني الرد المتين عليها، ومن أبرز المواضع التي أورد القرآن فيها النظير:
١ - الإخبار عن احتجاج المشركين على شركهم وتحريمهم ما أحل الله بالقضاء والقدر، وجعلهم مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم، قال تعالى : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شيء ) [الأنعام: ١٤٨]، وقد بين تعالى أن بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأذاق المشركين من أليم الانتقام، والذي يدل على نظيرهم في ذلك قوله: ( كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إلا الظَّنِّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: ١٤٨]، ويؤيده قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدَنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل : ٣٥].
٢ - الاستهزاء بالنبي ، فقد أخبر عنه تعالى بقوله: ﴿ وَقَالُوا يَنَأَيُّهَا الَّذِي نُزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ إِنَّكَ لَمَجْنُونَ﴾ [الحجر: ٦]، ثم قال : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعَ الْأَوَّلِينَ (3) وَمَا يَأْتِيهِم من رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [الحجر: ۱۰-۱۱]، وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم؛ لأن كفر أولئك السالفين مقرر عند الأمم ومتحدث به بينهم، وفيه أيضًا تعريض بوعيد أمثالهم".
٣ -طلب الآيات تعتنا، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا داية ) [البقرة: ۱۱۸]، والمعنى: (فلم) لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة، وأيضًا فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية و معجزة)، ولما ذكر تعالى شبهة مشركي العرب، بين أنهم جروا فيها على الأصل المعهود من أمثالهم المشركين الذين سبقوهم بالضلال": وَكَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة : ١١٨].
٤ -الاحتجاج ببشرية النبي الله على تكذيبه، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) [الإسراء: ٩٤]، والظاهر حمل التعريف في ( الناس ) على الاستغراق، أي ما منع جميع الناس أن يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل؛ لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها، فقال حكاية عن قوم نوح: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَيْكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في باينا الأولِينَ ﴾ [المؤمنون: ٢٤]، ومثله عن قوم هود: ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَسِرُونَ ) [المؤمنون: ٣٣-٣٤]، وعن قوم صالح : ( ما أنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) [الشعراء: ١٥٤]، وعن قوم شعيب: ( وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ [الشعراء: ١٨٦]، وعن قوم فرعون: ﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ) [المؤمنون: ٤٧]، وقال في قوم محمد : بل عجبوا أن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٍ عَجِيب) [ق: ٢].
القاعدة الثامنة بيان علة القول بالشبهة
إن النظر إلى منهج صاحب الشبهة يُظهر في كثير من الأحوال علة قوله بهذه الشبهة، ومعرفة هذه العلة تحقق الفهم الكامل للشبهة، وتفاصيلها، وتعطي التفسير الكثير من الشبهات التي لا تقوم على دليل، وهو ما بينه القرآن الكريم في مواضع عديدة تعد تأصيلا لهذه القاعدة في الرد على الشبهات، ومن أمثلة ذلك:
1- قوله تعالى في بيان شبهة المكذبين بالبعث بعد فناء الأجساد: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُرْقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ : أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أم به جنة ) [سبأ: ۷-۸] ، ثم قال: ﴿ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ البعيد ، أي: فمن أجل ذلك يقولون هذا المنكر، قال أبو السعود (ت ۹۸۲ هـ): (وضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترؤوا عليه من الشناعة الفظيعة كفرهم بالآخرة، وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلوا ذلك".
٢ - قوله تعالى في بيان شبهة إلقاء الشيطان في القراءة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَتِي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنسَحُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ تُحْكِمُ اللَّهُ ابنتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةٌ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بعيد ) [ الحج : ٥٢-٥٣) ، فقد أخبر تعالى أنه ما أرسل من رسول قبل محمد إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته من طرقه ومكايده ما هو مناقض لتلك القراءة، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ وحيه أن يشتبه، أو يختلط بغيره، ولكن هذا الإلقاء من الشيطان، غير مستقر ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض، ثم يزول، وللعوارض أحكام"، وهذا الإلقاء من الشيطان إنما يورث الشبهة في القلب بسبب مرضه، وقسوته، وهي علة هذه الشبهة قال ابن تيمية (ت ۷۲۸هـ): (قال تعالى: ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلقى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مرض لأن ذلك أورث شبهة عندهم، والقاسية قلوبهم ليبسها، فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم، وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان فصار فتنة لهم... والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات)".
٣- قوله تعالى في شبهة تعلم النبي من غيره : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبنٌ مُّبِينٌ ) النحل: ١٠٣]، فبعد أن بين هذه الشبهة قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِقَايَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل : ١٠٤]، وموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل الجميع أقوالهم المحكية، والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف
٤- قوله تعالى في شبهة القول بافتراء القرآن: ( أمْ يَقُولُونَ افْتَرَنهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مثله ) [يونس : ۳۸)، فإنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن، فقال بعد ذلك: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْهِمْ تَأْوِيله ﴾ [يونس : ٣٩]، فهو كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا".
ه- قوله تعالى في شبهة وصف القرآن بالسحر : ( وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرَى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [سبأ: ٤٣]، وقد أظهر القائلين دون إضمار، فقيل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ، ولم يقل: وقالوا للحق لما جاءهم؛ للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
٦- قوله تعالى في شبهة إنكار تخصيص النبي بالوحي: ( أَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من ذكرى ) [ص:۸]، قال الرازي في بيان علة القول بهذه الشبهة: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من ذكرى ) أي : من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم؛ وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة، وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته فهي دلائل قاطعة، فلو تأملوا حق التأمل في الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال النبوة، ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركوا النظر والاستدلال)، وفي قوله: (أن نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْينا ، وأمثاله كقوله: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزَلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمِ) [الزخرف: ۳۱) دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد، وقصر النظر على الحطام الدنيوي، وهي علة أخرى تشارك العلة السابقة.
٧ - قوله تعالى في شبهة اتهام النبي بالسحر والجنون: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ : أَتَوَاصَوْا بِهِ ﴾ [الذاريات: ٥٢-٥٣]، وبعد بيان شبهتهم، واتفاقهم فيها قال: ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: ٥٣]، فالعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي المستعلي في الأرض، المفسد العاتي على الله"، قال ابن عباس (ت ٦٨ هـ) : حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك . قوله تعالى في بيان جملة من شبه المكذبين بالوحي: ﴿ قُلْ أَرَمَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَقَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّامِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِنَّكَ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف : ۱۰-۱۱]، وهذه الآية هي في سياق ذكر شبهات متتالية، منها: وصفهم القرآن بالسحر : ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) [الأحقاف: ]، وشبهة القول بافتراء القرآن: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرنه ) [الأحقاف : ٨] وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله: ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وقوله: ﴿ وَكَفَرْتُم به ، وقوله : ( واستكبرتم ، وقوله : ( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ) ... الآية ، فكانت تعليلا لشبهاتهم المذكورة.
٨- قوله تعالى في شبهة تكذيب القرآن وطلب تبديله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيْنَت قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أَنْتِ بِقُرْءَانِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدَلَهُ ﴾ [يونس : ١٥]، ففي قوله: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) وضع الموصول موضع الضمير إشعارًا بعلية ما في حيز الصلة للعظيمة المحكية عنهم، وأنهم إنما اجترؤوا عليها لعدم خوفهم من عقابه تعالى يوم اللقاء؛ لإنكارهم له، ولما هو من مباديه من البعث، وذما لهم بذلك".
القاعدة التاسعة ختم الرد على الشبهة بخلاصة عامة
أصل القرآن الكريم قاعدة فريدة في الرد على الشبهات وهي التعقيب بالإجمال بعد التفصيل، وختم الشبهة بخلاصة عامة للرد عليها، وهي قاعدة مهمة لاسيما في الشبهات المركبة، أو الشبهات التي يجمعها موضع واحد مع تنوعها؛ لأن فيها توحيدا الفكرة الرد، وبيانا لقوة الحجة، وتأكيدًا على تحقيق شمولية الرد لكل ما يناسبه من شبهات قد تطرأ بعد ذلك، ومن أمثلة هذه القاعدة أن الله تعالى قد أورد جملة من الشبهات ورد عليها في سورة الفرقان حتى كان إيرادها في هذه السورة إحدى خصائصها، يقول ابن الزبير الغرناطي (ت ۷۰۸ هـ): (قد تضمنت هذه السورة من النعي على الكفار، والتعريف ببهتهم، وسوء مرتكبهم، ما لم يتضمن كثير من نظائرها، ومن ذلك قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إفك افترنه ﴾ [الفرقان : ٤]، وقوله: ﴿ وَقَالُوا أَسْتَطِيرُ الأولين أكتتبها ) [الفرقان : ٥]، وقوله: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي في الأسواق ﴾ [الفرقان: ٧]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) [الفرقان: ۸]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَتَيكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) [الفرقان: ٢١]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ حَمَلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: ٣٢]، ثم إن الله تعالى لما استقصى أكثر معاذيرهم وتعللاتهم، وألقمهم أحجار الرد، عطف على ذلك فذلكة " جامعة تعم ما تقدم، وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة الترهاتهم، فقال: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جئْتُكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: ۳۳]، والمراد بالمثل أي من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات"، فعن ابن عباس (ت ٦٨ هـ) ه قال: ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ) أي: بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول ، وفي الآية شاهد على عموم الشبهة وعموم الحجة المقترنة بها، وذلك بتنكير ( مثل) في سياق النفي، فهم بذلك محجوجون في كل أوان، مدفوع قولهم بكل وجه، وعلى كل حالة .
القاعدة العاشرة: مراعاة الترتيب في عرض الشبهة وجوابها
إن مراعاة ترتيب الشبهة وجوابها له أهميته في جودة البيان ووضوح المطلوب وتحقيق المقصود من الرد على الشبهات، وإفحام الخصوم، وإظهار الحق ودلائله في أكمل صورة، كما هو المنهج القرآني في ذلك، فقد عرض القرآن الكريم نموذجا مثاليا الترتيب الرد على الشبهات بما يشتمل عليه من إيراد الشبهة، ومناقشة أدلتها، وبيان بطلان الاحتجاج لها، ثم تذييل ذلك بالدليل على صحة المطلوب، ومما يدل على هذا المنهج بتمامه هو العرض القرآني للشبهات في سورة ص، فقد قال تعالى في بيانها : وعجبوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَنجِرٌ كَذَّابٌ) [ص: ٤]، وقال: ( ما سمعنا هذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَقُ) [ص: ۷]، وقال: (أنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِن ذِكْرِى بَل لَّمَا يَذُوقُوا عَذَابِ ) [ص:۸]، ثم عرض سبحانه قصص الأولين: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ) [ ص: ١٢]، ثم عرض عاقبة أهل الحق: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسن مقاب ) [ ص: ٤٩] ، وعاقبة أهل الباطل: ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّعِينَ لَشَرِّ مَقَابِ) [ ص: ٥٥]، وهذا العرض متصل بجواب الشبهات المذكورة، ثم كان تذييل هذا الجواب بالدليل على صحة المطلوب وهو قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إله إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفْرُ ) [ص: ٦٥-٦٦] وهذا الترتيب القرآني قد جاء على أحسن الوجوه، كما يبينه الرازي (ت ٦٠٦هـ) بقوله: (اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدًا لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد، وإلى أنه رسول مبين من عند الله، وإلى أن القول بالقيامة حق فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا: إنه ساحر كذاب، واستهزؤوا بقوله، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين، الأول: ليصير ذلك حاملا لمحمد على التأسي بالأنبياء في الصبر على سفاهة القوم، والثاني: ليصير ذلك رادعا للكفار على الإصرار على الكفر والسفاهة ... ولما تمم الله تعالى ذلك الطريق أردفه بطريق آخر وهو شرح نعيم أهل الثواب وشرح عقاب أهل العقاب، فلما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي: تقرير التوحيد والنبوة، والبعث، فقال: قل يا محمد إنما أنا منذر، ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها، ثم تذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب، فكذا هاهنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم، ونبه على فساد كلماتهم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب؛ لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم، وإلى هذا الترتيب أشار ابن عاشور (ت ۱۳۹۳ هـ) - أيضًا - فقال في تفسير قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ ) ... الآية: (هذا راجع إلى قوله: ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ ص: ٤]، وإلى قوله: أَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ) [ ص: ۸]، فلما ابتدرهم الجواب عن ذلك التكذيب بأن نظر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم، ولتنظير حال الرسول بحال الأنبياء الذين صبروا، واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول ﷺ من قومه فأمره الله أن يقول : ( إِنَّما أنا منذر ) مقابل قولهم: ﴿ هَذَا سَنحِرٌ كَذَّابٌ )، وأن يقول: ( وَمَا مِنْ إِلَهِ إِلَّا الله مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم: ( أَجَعَلَ الآلهة إلها.
وهذا فيما يتعلق بالترتيب العام للشبهة وجوابها، وقد ظهرت عناية القرآن - أيضا - في مراعاة الترتيب في الجواب ذاته، على أحسن الوجوه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيْنَتِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أَنْتِ بِقُرْءَانِ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلَهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدلَهُ ﴾ [يونس : ١٥]، والمراد بهم قريش؛ لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد، واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا، وأحل ما حرمته، وحرم ما حللته، ليكون أمرنا حينئذ واحدا وكلمتنا متصلة"، ثم كان الجواب: ﴿ قُلْ مَا يَكُونَ لِي أَنْ أُبَدَلَهُ مِن تِلْقَايِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِلَى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [يونس: ١٥]، قال أبو حيان ت ٧٤٥هـ) : ( وانظر إلى حسن هذا الجواب لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف، وعلقه بمطلق العصيان، فبأدنى عصيان ترتب الخوف، وقد قيل: إنما اكتفى بالجواب عن التبديل للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ، وقيل : إنه نفى عن نفسه أسهل القسمين وهو التبديل ليكون دليلا على نفي أصعبهما بالطريق الأولى، وفي هذا ترتيب للجواب بإيجاز بديع، بعد بسط حجتهم على وجه التفصيل، وانتقال للأهم وهو بيان علة هذا النفي.
ويتصل بهذا الموضع ترتيب الجواب عن مقتضيات قولهم، فقد أتبع الجواب السابق بجواب آخر وهو قوله: ﴿ قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَنَكُم بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) [يونس : وبيان ١٦]، ذلك ، أنه لما كان لاقتراحهم معنى صريح وهو الإتيان بقرآن آخر أو تبديل آيات القرآن الموجود، ومعنى التزامي كنائي وهو أنه غير منزل من عند الله، وأن الذي جاء به غير مرسل من الله، كان الجواب عن قولهم جوابين، أحدهما: ما لقنه الله بقوله: ﴿ قُلْ مَا يَكُونَ لِي أَنْ أَبَدَلَهُ مِن تلقاي نفسي ، وهو جواب عن صريح اقتراحهم، وثانيهما: ما لقنه بقوله: ﴿ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ، وهو جواب عن لازم كلامهم.
الخاتمة
وقد خرج هذا البحث بنتائج منها :
1 - أن القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي يعتمد عليه في تأصيل علم الانتصار لكتاب الله تعالى.
٢- أن للمفسرين جهودًا بارزة في بيان المنهج القرآني وقواعده في الرد على الشبهات، ولهم بذلك قصب السبق في تقعيد هذا العلم.
٣- أن المنهج القرآني في التعامل مع الشبهات قد فاق المناهج العقلية بما له من خصائص تميزه عن غيره.
٤- أن شمولية المنهج القرآني في عرض مختلف الشبهات، والتنوع في الجواب عنها، يجعل منه مرجعا أصيلا لمن أراد الانتصار للقرآن.
ه- أن المنهج القرآني تميز بالثبات، مما يجعل جوابه صالحًا لكل زمان ومكان.
٦ - أن بلاغة القرآن الكريم قد تجلت في أعظم صورها عند الرد على الشبهات المتكررة في القرآن الكريم.
أن المنهج القرآني قد عالج أشد الشبهات، ولم يخرج عن حد الوضوح واليسر في خطابه، وعرض حججه، فلا يُعدل عنه إلى المناهج المتكلفة في النقد. أن الرد على الشبهات المتجددة لابد أن يرتكز أولا على الجواب القرآني عن نظيرها، أو على الأصول العامة التي قررها القرآن. - أن الرد على الشبهات لابد أن يقوم على قواعد ضابطة، وأن يسير وفق منهج علمي، ليحقق مقصوده، وقد رصد هذا البحث عشرة قاعدة قرآنية في الرد على الشبهات.
---
(۱) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (٥٩٤/٤).
(۲) لطائف الإشارات لفنون القراءات القسطلاني (۳/۱)
1) الإتقان في علوم القرآن (٦٠/٤).
(۲) تفسير القرآن العظيم (۱/ ۲۰۰).
(1) التحرير والتنوير ابن عاشور (١٩٦/٨)
(1) التحرير والتنوير (٢٧٩/٢٦).
(۲) جامع البيان عن تأويل القرآن (٥٣٦/١١).
(1) ينظر: التحرير والتنوير (٢٣/٢٦).
(۲) تفسير القرآن العظيم (٨٥٧)
(۱) جامع البيان عن تأويل القرآن (١٥١/٢١).
(۲) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (١٤٦/٧).
(۳) تفسير مقاتل بن سليمان (٨٥/٦)؛ وينظر : تفسير القرآن، السمعاني (٤٢/٦).
0 Comments
No comments yet.
Leave a Comment
© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso