Thoughts & Arts
Image

منهج القرآن في التعامل مع الشبهات

06-08-2024

Web Design

15 Comments






اتسم المنهج القرآني في تعامله مع الشبهات بعدد من الخصائص، وهي سمات خاصة تميزه عن غيره من المناهج في الرد على الشبهات، ومن أبرزها:



أولا: شرف المصدر:



تميز المنهج القرآني في الرد على الشبهات باستمداده من القرآن الكريم الذي اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم، ومعادهم، قال تعالى: ما فَرَّطْنَا فِي الكتب من شَيْءٍ) [الأنعام: ۳۸]، وقال سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تَبَيْنا لكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: ۸۹] ، يقول القسطلاني (ت ٩٢٣هـ): إن القرآن العظيم ينبوع العلوم ومنشؤها، ومعدن المعارف ومبدؤها، ومبنى قواعد
الشرع وأساسه، وأصل كل علم ورأسه، فهو بذلك أشرف المناهج لتعلقه بأشرف الكتب المنزلة، وقد اكتسب خصوصية ليست لغيره.



ثانيا: الشمول:



جاء المنهج القرآني في رده للشبهات في صورة عامة شاملة لمختلف الشبه التي أثارها الطاعنون في زمن التنزيل، أو ما قابلت به الأمم السابقة رسلها مما اتصل بهذه الشبهات بشكل أو بآخر، ومنها الطعن في الوحي، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقِّ قَدْرِهِ، إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: ٩١]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إلا إنك افْتَرْنَهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمُ وَاخَرُونَ ﴾ [الفرقان: ٤]، وقوله: ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سحر يؤثر إن هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشر ) [المدثر : ٢٤-٢٥، أو الطعن في نزول القرآن، ومنه نزوله مفرقًا: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) [الفرقان: ۳۲]، ونزوله عربيا: وَلَوْ جَعَلْتَهُ قُرْءَ انَّا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فَصَلَتْ آيَنتُهُ وَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبي ) [فصلت: ٤٤]، أو الطعن في النبي ، ومنه قوله: ﴿ وَقَالُوا يَنأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونَ (3) أَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِين ) [ الحجر : ٦-٧]، وقوله: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ) ، وقوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) [الحاقة : ٤١-٤٢)، أو الطعن فيما جاء به القرآن، ومنه التوحيد، قال تعالى: ( أَجَعَلَ الأهةَ إِلَيْهَا وَحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ : وَأَنطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَأَصْبَرُوا عَلَى الهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اختلق ) [ص: ٥-٧]، وأمر البعث، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ تَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُرْقْتُمْ كُلِّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [سبأ: ٧]، وقال: ﴿ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَعِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسْطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) [المؤمنون: ۸۲-۸۳]،



ثالثا: الوضوح:



اتسم المنهج القرآني في دفع الشبهات ومحاجة الخصوم بالوضوح، والسهولة واليسر، مع الدقة في العرض والرد، قال السيوطي (ت ۹۱۱هـ): (قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يُبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين؛ الأمرين: أحدهما: بسبب ما قاله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَين لهم ) [إبراهيم: ٤]، والثاني: أن المائل إلى طريق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون، ولم يكن ملغزا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة؛ ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم، وتلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء).



رابعا: البلاغة



تميز المنهج القرآني في عرض الشبهة وردها بالبلاغة في أكمل وجوهها، ومن المعلوم أن البلاغة تتأكد عند تكرر الكلام، وقد عرض القرآن شبهات متكررة لم يفتر فيها حسن النظم، وجزالة اللفظ، وتمام المعنى، وهذا شأن القرآن الكريم، فإنه كلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد"، ومن الشواهد على ذلك، ما جاء في قوله تعالى في بيان شبهة قوم نوح: ﴿ أَوْ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ) [الأعراف: ٦٣]، قال ابن عاشور (ت) ۱۳۹۳هـ): (ووصف رجل بأنه منهم، أي من جنسهم البشري فضح لشبهتهم، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه - أيضًا - رد لها بأنهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استبعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان، إذ الشأن أن ينظروا في الذكر الذي جاءهم من ربهم، وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به، وأن يعلموا أن كون المذكر رجلا منهم أقرب إلى التعقل من كون مذكرهم من جنس آخر من ملك أو جني، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم، والاستدلال الصدق دعوى المجادل، وهو يتنزل منزلة سند المنع في علم الجدل،



وقد عرض القرآن هذه الشبهة في موضع آخر في بيان دعوى المشركين، وكانت صورة أخرى لبلاغة القرآن، قال تعالى: ﴿ بَلْ تَحِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٍ عَجِيبُ : أَذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ) [ق: ٢-٣]، قال ابن عاشور (ت) ۱۳۹۳ هـ): (عبر عن الرسول بوصف منذر... للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئاً عن صفتين في الرسول ، إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت... والثانية كونه من نوع البشر، وفرع على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله: فقال الكافرون: ﴿ هَذَا شَيْءٌ عجيب .... الآية، وخص هذا بالعناية بالذكر؛ لأنه أدخل عندهم في الاستبعاد، وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحد من نوعهم، ولذلك وصف الرسول ابتداء بصفة منذر قبل وصفه بأنه منهم؛ ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه، وأن كونه منهم إنما قوى الاستبعاد والتعجب،



ثم إن ذلك يتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث... فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة منها إيجاز الحذف، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير بها منذر ، ومنها إقحام وصفه بأنه منهم؛ لأن لذلك مدخلا في تعجبهم، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر.



خامسا: الثبات:



إن المنهج القرآني في الجواب عن الشبهات صالح لكل زمان ومكان، وهو بذلك منهج ثابت يستند إليه لا سيما عند تجدد الشبهة، وهو الأمر الذي دل عليه البيان القرآني في عدد من الشبهات، منها: شبهة ادعاء نزول الوحي على غير الأنبياء في زمن التنزيل ومن بعده، فقد قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَى وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ الله ) [الأنعام: ٩٣]، قال الطبري ت ۳۱۰هـ): (ولا تمانع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: «إني قد قلت مثل ما قال محمد، وأنه ارتد عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريا كذبًا، وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ادعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما: إن الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله، فإذ كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلفا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: أوحى الله إلي»، وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئا"، وكذلك شبهة وصف القرآن بالإفك، فهي من الشبه المتجددة في زمن التنزيل، ومن بعده، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِنَّكَ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: ۱۱]، فمعنى: فَسَيَقُولُونَ ) سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل، فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها،

ومن ذلك - أيضًا - شبهة اعتقاد شفاعة الآلهة، قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَذِبٌ كَفَّارٌ ) [الزمر:3]، قال ابن كثير ت ٧٧٤هـ): (هذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة الله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه".

المبحث الثاني قواعد المنهج القرآني في الرد على الشبهات

القاعدة الأولى: نسبة الشبهة لأصحابها.

تسهم هذه القاعدة في بناء الرد الواضح على الشبهة المثارة، وإثبات الحجة على القائلين بها، ومن وافقهم، وتعيين أصحابها فلا تنسب الشبهة لغيرهم. وقد اعتنى القرآن الكريم بنسبة الشبهة لأصحابها عند عرض الشبهات كالمشركين وأهل الكتاب، والأقوام السابقة كقوم عاد، وقوم نوح، وغيرهم، ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْوَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ، فَؤَادَكَ وَرَتِّلْته ترتيلا ) [الفرقان: ۳۲]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِنَّكُ افْتَرَنَهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ وَاخَرُونَ فَقَدْ جَاءُ و ظُلْمًا وَزُورًا ﴾ [الفرقان: 4]، وقوله: ﴿ الَّذِينَ اتَيْنَهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [البقرة: ١٤٦]، وقوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ تَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنبِّئُكُمْ إِذَا مُزَقْتُمْ كُلِّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ : أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أم بِهِ جَنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ والضَّلَالِ البَعِيد ) [سبأ: ۷-۸]، وقوله: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَنقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَيْهِ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَتَرَنكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَذِبِينَ ﴾ [الأعراف: ٦٥-٦٦) ، وقوله : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مبِين أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما تزنك إِلَّا بَشَرًا مثلنا وما تزنك اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي وَمَا تَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكم كذبين ) [ هود : ٢٥-٢٧] ، وقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا
تربا وَمَابَاؤُنَا أَبِنا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَمَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأولين ) [النمل: ٦٧-٦٨].



وقد سار المفسرون على تحقيق هذه القاعدة ببيان القائل بالشبهة في عدد من الشبهات التي ورد فيها التعيين، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ أَجَعَلَ الْأَهْلَةَ إِلَيْهَا وَحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ وأنطلق الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَأَصْبِرُوا عَلَى وَالهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) [ ص: ٥-٦]، قال الطبري (ت ۳۱۰هـ): (ذكر أن قائل ذلك كان عقبة بن أبي معيط)، وقال السيوطي (ت ۹۱۱ هـ): (عن ابن عباس : ( وَأَنطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ، قال: «أبو جهل )، ومنه - أيضًا - قول مقاتل (ت ١٥٠هـ) في قوله تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ : وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِن قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الحاقة : ٣٨-٤٢]: (ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، فقال أبو جهل بن هشام بل هو مجنون، فقال عقبة بن أبي معيط بل هو شاعر، وقال النضر : كاهن... فبرأه الله من قولهم".



القاعدة الثانية: ذكر أدلة الشبهة.



تعد هذه القاعدة إحدى القواعد الرئيسة في الرد على الشبهات التي تقوم على دلیل؛ فإن إيراد الدليل أول خطوات نقضه، وبإبطاله تبطل الشبهة القائمة عليه. وقد اعتنى القرآن الكريم ببيان أدلة الشبهة عند الحاجة لذلك، كشبهة إنكار البعث التي يستدل لها المنكرون بفناء أجسادهم، قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يس: ۷۸]، يقول الرازي (ت ٦٠٦ هـ): (منهم يعني منكري البعث - من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد، وهي على وجهين أحدهما: أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود، وأجاب عن هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) یس : ۷۹] يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا كذلك يعيده وإن لم يبق شيئًا مذكورًا، وثانيها: أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع، وبعضه في جدران الرباع، كيف يجمع ؟... فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس: ٧٩]... يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع، المبددة في الأصقاع، بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة)، وقد أشار تعالى إلى هذه الشبهة ودليلها في مواضع كثيرة، منها قوله : ( قَالُوا أَذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَمِنَّا لَمُبْعُوثُونَ ) المؤمنون: ۸۲]، وقوله: ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَمًا وَرُفَنا أنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) [الإسراء: ٤٩]، وقوله: ( يَقُولُونَ أَعِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (ج) أَذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِزَةٌ ) [النازعات: ۱۰-۱۱]



ومن أمثلة ذلك - أيضًا - شبهة إنكار الرسالة السماوية احتجاجا ببشرية الرسل فقد ذكر تعالى دليلها بقوله : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٦٣]، قال ابن عاشور (ت ۱۳۹۳هـ): (أحالوا أن يكون رسولا، مستدلين بأنه بشر مثلهم، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ فَقَالَ الْمَلُوا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلَتَيكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في اباينا الأولين ﴾ [المؤمنون: ٢٤]، وقوله: بل عجبوا أن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيء عجيب) [ق: ٢]، وقد أجاب تعالى عن هذه الشبهة بنقض دليلها فقال: قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَتَبِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) [الإسراء : ٩٥]، فإنما يبعث الملك إلى الملائكة، والبشر إلى البشر"، وهذا من لطفه تعالى ورحمته بعباده ليفقهوا عن رسولهم ويفهموا منه؛ لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ".




ومن الأمثلة كذلك شبهة تكذيب الرسل بالنظر لحال أتباعهم، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَسَيَقُولُونَ هَذَا إنك قديم ) [الأحقاف: (۱۱)، فقد استدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم، وهم يعدونهم منحطين عنهم، ومثله قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايْتُنَا بَيْنَت قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَى الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مِّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَرْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَننَا وَرنيا ) [مريم : ٧٣-٧٤]، وقد رد تعالى عليهم شبهتهم بأنه كم من أمة من المكذبين قد أهلكهم الله بكفرهم كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة، ومناظر، وأشكالا، فانتفت شبهتهم، وسقط استدلالهم المبني على النظر إلى الحال الدنيوية، والإعجاب بما لديهم.



القاعدة الثالثة مراعاة المناسبة بين الشبهة وجوابها



إن اختلاف الشبهات في متعلقها وطبيعتها، يقتضي اختيار الجواب الملائم لها، وتمثل الردود القرآنية في تنوعها ومناسبتها للشبه المثارة قاعدة شاملة تتجلى فيها مراعاة الجواب لنوع الشبهة، وهو الأمر الذي ينبغي أن يستند عليه كل من يتصدى للشبهات، ومن أبرز أوجه الرد على الشبهات التي ظهرت فيها المراعاة بين الشبهة وجوابها:



التحدي:



ومثاله في شبهة القول بافتراء القرآن قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَنهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مَثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ) [يونس: ۳۸]، وقد وقع التحدي في الجواب على مقامات، وهو ملائم في جواب هذه الشبهة التي تعد من الشبه البارزة، ويمتد القول بها على مختلف العصور، يقول ابن كثير (ت ٧٧٤هـ) هذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده، واستعينوا بمن شئتم، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: ﴿ قُل لَّينِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: ۸۸]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود وأم يَقُولُونَ افْتَرَنهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَتِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صندقين ) [هود: ١٣]، ثم تنازل إلى سورة، فقال في هذه السورة: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَنهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صندقين ) [يونس: ٣٨]، وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية - تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا، فقال: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا ) [البقرة : ٢٤] ... الآية، هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته، وإفادته وبراعته.



إلزام صاحب الدعوى بلازم ما يقر بصحته



ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى بين شبهة المكذبين بالبعث فقال: ( قَالُوا أَذَا مِتنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَمِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون: ۸۲-۸۳]، ثم إنه تعالى ردّ هذه الشبهة بقوله: ( قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ، مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا تُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ : سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: ٨٤ ٨٩]، فأمر الله تعالى نبيه بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلا الإقرار بها، ويلزم من الإقرار بها أن يؤمنوا بباريها، ويذعنوا الشرعه، ورسالة رسوله.



الدعوة إلى النظر في آيات الله تعالى:



وقد جاء هذا الجواب ردا على شبهة وصف النبي بالسحر، والجنون، وغيرها من الأوصاف، قال تعالى: ﴿ بَل كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرِ مُرِيجٍ (3) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّتُهَا وَمَا لَمَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ : تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدِ مُنِيبٍ ) [ق: ٥ - ٨]، قال الزجاج (ت ۳۱۱): (مريج: مختلف ملتبس عليهم مرة يقولون للنبي شاعر، ومرة ساحر، ومرة مُعلَّم"، وشبهة الاختلاف في أمر النبي وتكذيب ما جاء به كان جوابها الدعوة إلى النظر وإعمال العقل، فدعاهم سبحانه إلى النظر في آياته الأفقية كي يعتبروا، ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه، فإن ما فيها من الخلق الباهر، والشدة والقوة، دليل على كمال قدرة الله تعالى، وما فيها من الحسن والإتقان دليل على أن الله أحكم الحاكمين، وما فيها من المنافع والمصالح للعباد دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء، وقد ناسب هذا الجواب هذه الشبهة الصادرة عن تكذيب محض دون دليل، وكانت الدعوة إلى التأني والنظر في خلق الله في مقابل مبادرتهم بالتكذيب دون تفكر ولا تأمل، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) فإن (لما ) حرف توقيت دال على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها، فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط، والمعنى أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة.



اقتران جواب الشبهة بذكر سوء العاقبة



وذلك إما بالتقديم للجواب أو التعقيب عليه بالوعيد الشديد، وفي هذا الاقتران إمعان في ردع المفترين عن افترائهم وبيان العاقبة القول به، وقد جاء التقديم للجواب بذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ اينتُنَا بَيْسَتِ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَى الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثْنَا وَرِدْيَا قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ) [مريم: ۷۳ ٧٥]"، فجملة: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبيء ما يجيبهم به عن قولهم، وموقعها التهديد، وما بعدها هو الجواب".



وأما التعقيب على الجواب بالتهديد فمثاله قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانَ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبٌ مُّبِينٌ ) [النحل: ١٠٣]، فالشبهة الواردة هي ما كان يقوله المشركون من الكذب أن محمدًا إنما يعلمه بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، وجوابها: ﴿لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبنٌ مُّبِينٌ ، والمعنى: كيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي ؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل، ثم عقب تعالى بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَايَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل : ١٠٤]، وهذا تهديد لهم ووعيد على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى، ونسبة رسول الله إلى الافتراء، بعد إماطة شبهتهم ورد طعتهم". التوبيخ يظهر ذلك في الشبهات التي بان بطلانها، ولم ينته الظالمون عن القول بها في مختلف العصور، فكان التوبيخ تشنيعا عليهم في مقالتهم، ومنه قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرُ أَوْ مَجْنُونُ : أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات : ٥٢-٥٣]، فالشبهة المثارة باتهام الأنبياء بالسحر والجنون كان في جوابها قوله : ( أتواصوا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) ، وقد صدر الجواب بالألف والألف للتوبيخ"، والتعجب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ أي كأنهم أوصى بعضهم بعضًا بأن يقولوه".



التقديم للشبهة بذكر الآيات والبراهين



وفي ذلك توطئة بإقامة الحجة على القائلين بالشبهة، كشبهة اتهام النبي بتعلمه من غيره، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِتُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: ١٠٥]، ووجه ذلك يبينه الطبري ت ۳۱۰هـ) بقوله: (كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأنداد، كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها؛ كيلا يقولوا الرسولنا الذي أرسلناه إليهم إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب فيتزجروا عن تكذيبهم إياه... ولنبين بتصريفنا الآيات الحق لقوم يعلمون الحق إذا تبين لهم فيتبعوه ويقبلوه، وليسوا كمن إذا بين لهم عموا عنه فلم يعقلوه، وازدادوا من الفهم به بعدا)".



إبطال الشبهة بالقياس:



وفيه قطع حجة المكذبين، وإبطال شبهتهم بما يقرون بصحته ووقوعه، وقد جرى ذلك في نقض شبهات النبوة، ومن ذلك قوله تعالى: ( وما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: ٤٣]، فهذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولاً من الله تعالى"، وكان إبطالها بقياس التمثيل بالرسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم ، ومثل ذلك قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِيَ إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القرى ) [يوسف: ۱۰۹]، وقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: ٢٠]، وقوله : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعَا مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف : ٩].



القاعدة الرابعة: إبطال أصل الشبهة لإبطال ما ينبني عليها



تعد هذه القاعدة قاعدة مهمة في الرد على الشبهات، فإن كان للشبهة أصل واضح فلابد من العناية بإبطاله ليبطل ما يقوم عليه، وقد أصل القرآن الكريم هذه القاعدة في مواضع عديدة، ومنها قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخْطُهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لَّأَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت : ٤٨)، وقد دل على موضع الشبهة قوله: إِذًا لَّأَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )، قال قتادة (ت ۱۱۷ هـ): «إذن لقالوا: إنما هذا شيء تعلمه محمد وكتبه، وهذه الشبهة - على اختلاف القائلين بها، واختلاف أزمانهم - قد أبطلها القرآن الكريم على نحو قاطع بإبطال أصلها وهوا ا وهو التعلم، فأثبت أمية النبي : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِينِكَ ، وفيها نفي حالتي التعلم وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة؛ استقصاء في تحقيق وصف الأمية، فإن الذي يحفظ كتابا ولا يعرف الكتابة لا يعد أميا كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه ولا يحفظ علما لا يعد أميا مثل النساخ، فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية".



وقد أشار المفسرون إلى أثر هذا الأصل في إبطال الشبهة، قال ابن عطية ت ٥٤٢هـ): (لو كان ممن يقرأ لارتاب المبطلون وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده، وقال الرازي (ت ٦٠٦ هـ): (على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة)".



ومن الأمثلة على هذه القاعدة - أيضًا - أن الله تعالى قد رد دعوى الكفار بأن النبي شاعر، والقرآن شعر، بقوله: ﴿ وَمَا عَلَّمْتَهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مبين ) [يس: ٦٩]، وكذلك كان لا يقول الشعر، ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعنى فقط، وفي نفي هذا الأصل تنتفي الشبهة القائمة عليه على وجه الحسم، يقول القرطبي (ت ٦٧١ هـ): (جعل الله جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر، وقال أبو السعود (ت ۹۸۲هـ): جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له، كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط؛ لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض)، وقال السعدي (ت ١٣٧٦ هـ): (إن الله تعالى جسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له).




القاعدة الخامسة: الاستعانة بالأصول الثابتة لرد الشبهات



إن من أبرز القواعد القرآنية في الرد على الشبهات الاستعانة بالأصول الثابتة في القضايا الكلية التي قررها القرآن الكريم، وتعد مرجعا عاما لإبطال الشبهات، وتسهم هذه القاعدة في كشف حقيقة الشبهات التي ظاهرها الاختلاف والكثرة بإرجاعها إلى قضية واحدة، وإبطالها بالأصل الثابت الذي قرره القرآن، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الشورى: ٣]، وقد قرر هذا الأصل أمورًا منها:



1- أن محمدا ليس ببدع من الرسل، وأن طريقته طريقة من قبله، وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين؛ لأن الجميع حق وصدق". أن القرآن تنزيل من اتصف بالألوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة، وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي".



- أن ما جاء به النبي من الوحي إن هو إلا مثل ما جاءت به الرسل السابقون، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم، وقد حصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز".



وقد جاء بعد بيان هذا الأصل العام في فاتحة السورة ذكر شبهة من الشبهات المثارة حوله، وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الشورى: ٢٤]، يقول الرازي في بيان أثر هذا الأصل في رد هذه الشبهة: (اعلم أن الكلام في أول السورة إنما ابتدئ في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله، وهو قوله تعالى: وكذالك يُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الشورى: ٣]، واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى، وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى هاهنا، ثم حكى هاهنا شبهة القوم وهي قولهم: إن هذا ليس وحيا من الله تعالى، فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ، وفي بيان أثر هذا الأصل - أيضًا - يقول ابن عاشور (ت) ۱۳۹۳هـ): (لك أن تعتبر صيغة المضارع منظورًا فيها إلى متعلقي الإيحاء وهو : ( إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنه مشاهد".



ومن الأمثلة على ذلك - أيضًا - قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) [النساء: ۸۲]، وقد قرّر هذا الأصل أن القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق".



--

0 Comments

No comments yet.

Leave a Comment

© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso