سياسة الرسول
02-10-2024
Web Design
15 Comments
محمد تي. إتش. الدارمي
وكان ذلك يوم الفتح الأعظم، قبل أن يتقدم على عملية الفتح المبين، كان قلبه صلى الله عليه وسلم يأمل ويرجو أن لا تسيل الدماء ولا تُهتَك الأعراض والحرمات في بقاع الحرم الطاهر. كما كان في أمنيته أن تطيع مكة المكرمة بدون نوع من الكره أو الإكراه. ولهذه الأسباب النبيلة كانت خطواته صلى الله عليه وسلم في غاية التأني والانتباه بحيث لا يورط أحدًا ولا يخيفهم بمقدمات سلبية. ولذلك قبل أن يدخل إلى مكة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل من دخل دار أبي سفيان يكون آمنًا. ولما ضاق عدد اللاجئين في بيت أبي سفيان وسع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر إلى سائر البيوت حتى قال: "من أغلق عليه بابه ولزم بيته ولم يخرج على جيش الإسلام يكون آمنًا."
ثم دخلت الجيوش الإسلامية مكة كما خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزم معظم أهل مكة بيوتهم. وكانت شوارع مكة خالية من المارة والمشاة. وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم – كما قلنا – ألا يحدث قتال في هذا البلد الحرام لأنها أحب البلاد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم. ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم مشاعر الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانه وأنواعه، وكان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار.
قال سعد رضي الله عنه في حماسة شديدة قوية عند دخوله مكة: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة.." وهذه الكلمات تعبر عن رغبته في القتال الدامي. ومن البين أن يكون هذا الموقف منطقيًا لعدة أمور، منها ما قام به أهل مكة طوال سنوات تبليغ الإسلام من الاضطهادات والنكال والاعتداءات على الأبرياء من الصحابة بألوان النكبات. فهؤلاء هم الذين عذبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام وآذوه وأصحابه قبل ذلك. فهم يستأهلون أي رد عليها. ومنها أيضًا خلفية شرعية يرضى بها الله ورسوله، لأن الله سبحانه وتعالى أحل لنبيه هذه البقعة الطيبة لقتالٍ مدةً إن أراده. كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن مكة قد أحلت له ساعة من نهار)، يعني: القتال في ذلك الوقت قتال شرعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريده فقط عند الاضطرار.
وفوق ذلك كله كان في قلب سعد بن عبادة تغلغُلٌ آخر، وهو أن مشركي مكة عذبوه وهتكوا حرمة سيادته إثر الغابة الثانية. رغم أن سعدًا كان سيد قومه، لم تمنعه تلك السيادة من أن ينال قسطًا من تعذيب قريش، وذلك أنه بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، وأخذ الأنصار يستعدون للسفر والرجوع إلى المدينة، علمت قريش بمبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم معه على الهجرة إلى المدينة ليناصروه ضد قوى قريش، فجن جنونهم، وطاردوا المسلمين، حتى أدركوا منهم سعد بن عبادة، فأخذه المشركون، وربطوا يديه إلى عنقه، وعادوا به إلى مكة حيث التفوا حوله يضربونه، وينزلون به أشد العذاب. ولا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثرًا، وأراد أن يعاملهم بالمثل فقال مثل هذه الكلمات.
ومع كل هذه المبررات، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يريد قتالًا فعلًا، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان، وأفصح أبو سفيان أمامه صلى الله عليه وسلم خوفه في إفساد سعد بن عبادة الأمور بكلامه وموقفه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصل ويقف هناك أمام أمور متضادة ومتعاكسة في وقت واحد. وكان له أن يراعي مشاعر أبي سفيان في توثيق الأمان لقومه ودياره. وكان له أن يراعي مشاعره النفسية من كف الدماء في المشاعر المقدسة. وكان له أن يراعي موقف أهل مكة حيث لجؤوا إلى ملجأهم راغبين في الأمن والأمان. وكان له أيضًا أن يراعي مشاعر سعد بن عبادة لأنه كان سيدًا شجاعًا وصحابيًا جريئًا.
وهناك ظهرت عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اختار الأول والأهم منها قدرًا وحاجة. وكان أول ما قام به صلى الله عليه وسلم تعديل كلمات سعد بن عبادة بقوله: "اليوم يوم المرحمة.." وكان صلى الله عليه وسلم يبدل كلمات سعد: "اليوم يوم الملحمة.." وأضاف قائلًا: "اليوم يوم المرحمة، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة." فالرسول صلى الله عليه وسلم صحح المفاهيم. ثم دخل إلى العملية التالية والمهمة، وكانت تعديل نفس سعد بن عبادة لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد خشي أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية فيتساهل في أمر القتال، فرأى أن ينزع منه راية الأنصار ويعطيها لغيره. ولكنه كان يعلم أن ذلك سيحزن ويؤلم هذا الصحابي الجليل. فكان عليه أن ينزعه بطيب خاطره وحفظ مشاعره. وقد فعله صلى الله عليه وسلم بوجه رائع جدًا حافظًا خاطر سعد بن عبادة بحيث لا يؤثر على نفسيته وخاصة أنه زعيم الخزرج.
أخذ منه الراية فأعطاها لابنه قيس بن سعد بن عبادة، وكان قرارًا لا يلام عليه حتى من سعد بن عبادة، لأنه كان ولده، ولا يلام عليه أحد من الصحابة لأنهم كانوا يرون قيسًا أهلًا له، وكذلك كان راضيًا مطمئنًا في قلبه صلى الله عليه وسلم لأنه كان على ثقة من أن قيسًا لا يقاتل إلا من قاتل. وهنا تظهر عبقريته السياسية كما تظهر في كل معاملاته في نواحي حياته الشريفة.
وذلك لأنه لقد شاء خالق الأكوان أن يكون ذلك اليتيم القادم من وادٍ غير ذي زرع أعظم عظماء الدنيا بأسرها، وأن يتمكن من قلب موازين القوى والأحداث في الخارطة العالمية وتعديلها. فالرسول القائد صلى الله عليه وسلم لعب دورًا محوريًا في التغيير العام للبشرية من خلال السياسات التي اختاره الله لها أيضًا. وهذه القوة هي التي يستمد منها لإنجاز كل المهام الصعبة التي أوكلت إليه. ولسبب هذه القوة لم يفكر صلى الله عليه وسلم يومًا بالتخلي عن أداء واجبه، ولم يخفِ ولم يهرب من مواجهة الصعوبات. وكان قائدًا حكيمًا يجيد فن المعاملة الموجبة كما يجيد فن الصبر والاحتمال وسياسة النفس. وفوق ذلك كله فهو السياسي المحنك، والقيادي الفذ الذي تدين له البشرية جمعاء.
هنا، محاولة سريعة لتسليط الضوء على نماذج من سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحكيمة عبر سياسته الداخلية والخارجية.
أولا: السياسة الخارجية: لا بد لأي دولة في العالم من التعامل والتعاطي مع الدول المجاورة عبر سياسة خارجية متبناة من قبل القيادة في تلك الدولة، وتتنوع العلاقات الخارجية على التعاون وحسن الجوار وتبادل الزيارات وإبرام الاتفاقيات وتقريب وجهات النظر، وقد تكون العلاقات بين دولة وأخرى تسودها القطيعة والجفاء أحياناً، وصولاً إلى الخصومة والحرب. والرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره صاحب الرسالة الإسلامية العالمية كان لزاماً عليه أن يحيط بما يجري حوله في الدول المجاورة، ومعرفة أخبارها وبالتالي دعوتها إلى الإسلام. وفعلاً أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم مقدرته وبراعته في التحرك الخارجي عبر بُعد النظر وتشخيص الصالح من الطالح، والتقدير المناسب للأمور، والقدرة الفائقة في عملية الكسب إلى الإسلام.
وسياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتجهت هذا الاتجاه حيث بادر في بادئ الأمر إلى مخاطبة الملوك ورؤساء القبائل، عبر إرساله الموفدين والمندوبين من قبله وهم يحملون رسائله الشفوية والخطية التي كانت رائحة الإسلام تفوح من بين كلماتها. وأول تلك المراسلات الخارجية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت مع النجاشي ملك الحبشة، وتلك السياسة الحكيمة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي مهّدت الأرضية لهجرة المسلمين الأولى. ولم تقتصر القائمة التي أعدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في التحرك على الصعيد الخارجي وإيصال الدعوة الإسلامية إلى أبعد نقطة على النجاشي فقط، حيث ضمت تلك القائمة هرقل عظيم الروم وأسقف الروم في القسطنطينية، أسقف إيلياء، وكاتب ملوك العرب والمقوقس عظيم القبط في مصر وكسرى ملك الفرس.
ثانيا: المصاهرة: المصاهرة هي إحدى المحاور التي تحرك عليهاز الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى، وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خلال تلك العملية أن يختصر الكثير من الوقت وهو يسعى لانتقال الدعوة الإسلامية من حيز أمة العرب إلى بقية القوميات والمذاهب الأخرى. فزواجه من جويرية بنت الحارث سيدة بني المصطلق كان نعمة عظيمة على قومها، حيث كانت النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين، كما تعلقوا بالمسلمين بأعمق شعور من الصداقة، فدخلوا الإسلام فيما بعد. وكذلك زواجه من صفية بنت حُييّ التي كانت تفتخر بزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمام الكل عبر قولها "زوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى.." وزواجها هذا كسب بعض المكاسب الاجتماعية والمالية.
ونرى أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل هذه المصاهرة لبناء جسر قوي مع أقباط مصر. لما وهب الأقباط إحدى نسائهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها الرسول إليهم وتزوجها، وهكذا فتح الرسول صلى الله عليه وسلم جسراً ممتداً من العلاقات بين مصر والجزيرة العربية حتى أن الرسول استوصى بهم خيرا حيث قال: "استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً". فكانت مصاهرته صلى الله عليه وسلم أيضا من سياسته الحكيمة.
ثالثا: المفاوضات: لنا ما يكفينا في هذا الأمر ما وقع في مفاوضات الحديبية من عقد اتفاقية صلح وهدنة بين المسلمين وقريش تضمنت شروطاً عديدة اتفق عليها الطرفان. والمتتبع لمجريات أحداث هذا الصلح يلمس وبوضوح مدى المقدرة السياسية في تنظيم ذلك الميثاق وكتابته، حيث استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهيئ الأرضية لانتشار الإسلام في المناطق الأخرى فلقد دخلت في الإسلام العديد من القبائل بعد توقيع الصلح وبعد أن أزيل الخوف عنها، حيث اعترفت قريش في ميثاق هذا الصلح بالكيان الإسلامي بصورة رسمية، مما أعطى المسلمين فرصة في التغلغل في صفوف الأمة من خلال نشاطهم التبليغي ودعوتهم إلى الإسلام. وتلك الجهود التبليغية أثمرت فيما بعد فتح مكة بعد عامين من اتفاقية الصلح بعشرة آلاف مسلم بعد أن كان عدد المسلمين عندما قدموا إلى مكة لا يتجاوز الألف وأربعمائة مسلم. ومن هنا تتجلى فائدة هذا الصلح في توسيع الكيان الإسلامي، حيث يعدّ هذا الصلح خطوة في انتصار الإسلام بما لا يقبل التشكيك والمجادلة.
رابعا: السياسة الداخلية: تسيير أمور البلاد داخل حدودها، والقضاء على المشاكل الداخلية، والعمل على إيجاد مشاريع مستمرة من أجل المصلحة الداخلية للبلاد تجمعها سياسة حكيمة وعقلية راجحة. هذه هي أبرز محاور السياسة الداخلية الناجحة. وهذه قادت إلى إيجاد دولة خضعت للتطور باستمرار حتى تفوقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين. ومنها المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. إن أبرز الدوافع التي تقف وراء طرح الرسول لمشروع التآخي هو أن المسلمين كانوا –وقتها- يواجهون الكثير من المصاعب التي تتطلب التعاون والتعاضد لتذليلها، وهكذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المشروع أن يسمو بعلاقات هذه المؤاخاة إلى المستوى الإلهي، لأن روحها كان الحب في الله والبغض في الله.
خامسا: المعاهدات الداخلية: كان من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المعاهدة التي أعدها للتعايش السلمي بين الأنصار والمهاجرين والتي وقع عليها يهود المدينة من الأوس والخزرج، أما يهود بني النضير وبني قينقاع وقريظة فقد عقد الرسول معهم معاهدة مستقلة. بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووثق من رسوخ قواعد المجتمع الإسلامي الجديد، بإقامة الوحدة العقائدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، رأى أن يقوم بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان همه في ذلك هو توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء. وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود، فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام. وتعد هذه المعاهدة أول معاهدة سلمية وإيجابية من نوعها. وسياسة الرسول ممتدة في الحياة الشريفة في كافة أنحائها.
0 Comments
No comments yet.
Leave a Comment
© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso