عصر ينتظر مجددا ١
31-10-2022
Web Design
15 Comments
عصر ينتظر مجددا ١
كان العالم الإسلامي خلال النصف الأخير من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مسرحا لصراعات هادئة وحادة، تجري أحيانا ظاهرة وأحيانا خفية. وكان هذا العالم يبدو وكأنه عالم يعاد تركيبه على نحو جديد، ثم حمل القرنان التاليان (الخامس والسادس الجريان) صورة التركيب الجديد لهذا العالم.
لقد بدأت تبرز بوضوح في خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ـ مجال حديثنا ـ ظاهرة الفوضى الدينية والسياسية التي تمثلت في وجوه خلافات إسلامية ثلاث تقتسم العالم الإسلامي، وتتنازع الزعامة عليه، ثم في وجود حركات انشقاق روحي وسياسي عن هذه الخلافات، توشك كلها أن تفقد مكانتها الروحية والسياسية.
لقد أحست الدولة الفاطمية التي كانت تسيطر على بلدان المغرب العربي إلى عام 362 هـ (972 م) سيطرة سياسية كاملة بشيء من عدم الإطمئنان في تلك الوهاد الوعرة، وتأكد لحكامها أن المغرب العربي لم يتشبع بالأفكار الشيعية، وبأنه لا يصلح ـ بعد طول كفاح ـ قاعدة ثابتة لانطلاق الدعوة الشيعية، فقد توسل الفاطميون بكل وسيلة لمصارعة خصومهم من السنة المالكية، ولرفع لواء مذهبهم ... توسلوا بالمناظرة، فقعدوا المجالس، وجلبوا أئمة المالكية بالقيروان، وأخذوا يناقشونهم بالحجة ويصارعونهم بالرأي فما ازدادوا ـ أي المالكية ـ إلا تماسكا برأيهم، فلم يجدوا بدا من التنكيل والتعذيب، وأفتى فقهاؤهم: بأن من انتقص واحدا من نسل فاطمة فإنه مباح الدم، فجلسوا إلى المساجد ومعهم الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدة ودعوهم إلى التشرق (التشيع)(1) ، فمن أجاب أحسنوا إليه، ومن أبى حبسوه(2).
وقد وقف المالكيون في وجه بني عبيد بكل الطرق التي أتيحت لهم، ولم يكن المذهب المالكي بالنسبة إلى أكثريتهم مجرد مذهب من مذاهب فقهية كثيرة، بل كان بالنسبة إليهم حصنا يعتصمون به في مقاومة التشيع(3). لقد كان من أبرز أهداف خروج الفاطميين من المنصورية إلى القاهرة البحث عن قاعدة جديدة قوية تستطيع الدعوة الشيعية أن تجد فيها الأمن والإستقرار والإنتشار، بعد أن يئس الفاطميون من المغاربة (المعروفين بطبعهم بالعصبية... يتعصبون للشيء فيخلصون ويصلون إلى حد التضحية بأنفسهم في سبيل المبدأ الذي يؤمنون به(4)).
ولئن ظل بلكين بن زيري الصنهاجي المستخلف على المغرب من قبل المعز لدين الله الفاطمي وفيا لدولة الفاطميين في مصر، فإنه كان مضطرا إلى ذلك بحكم المتاعب الداخلية التي يتعرض لها من القبائل المنافسة لصنهاجة، والتي كانت تطمع في حكم المغرب العربي بعد رحيل الفاطميين عنه، يؤكد ذلك، تلك الحروب التي خاضها بلكين وابنه المنصور من بعده مع زناتة وكتامة وغيرهما من القبائل التي كانت ترى لنفسها حق حكم المغرب ـ مما سنفصله بعد.
وعلى الرغم من أن باديس بن المنصور بلكين ( 386-406 هـ) (996-1016 هـ) ترسم خط أسلافه في إعلان ولائه للخليفة الفاطمي، وعمله على نشر المذهب الإسماعيلي، ورفع لوائه ومحاربة أهل السنة وتسخير الجند والشرطة في النيل من فقهاء المالكية... على الرغم من هذا نشب النزاع بينه وبين الحاكم بأمر الله بسبب تدخل هذا الخليفة في طرابلس، ومحاولة انتزاعها من الزيريين. وهكذا ساءت العلاقة بينهما، وكان من أثر سياسة الحاكم بأمر الله أن بدأ أهل السنة في القيروان ينشطون في نشر دعوتهم، وكان من مظاهر ازدياد نفوذ أهل السنة في عهد باديس أن عهد إلى فقيه سني يدعى (أبا الحسن بن علي الرجال) بتربية ولي عهده وتنشئته. وكان أبو الحسن سنيا مالكي المذهب فأخذ يحبب إلى الأمير الصغير عقائد المذهب السني، وكان اختيار هذا الفقيه لتربية ولي العهد فوزا بعيد المدى للمذهب السني في إفريقية، ظهر أثره في مذبحة الشيعة بإفريقية التي وقعت في عهد المعز بن باديس سنة 407 هـ (1016 م)(5).
وقد كانت مذبحة الشيعة الآنفة الذكر فاتحة عهد من الصراع البارز عبر فيه المغرب عن مستوى التأثير الشيعي السطحي، بل الكراهية النفسية العميقة، التي يكنها لأساليب ودعاة الدعوة الشيعية، فإن المعز بن باديس ـ الذي حدثت المذبحة بعد توليه الحكم بعام واحد ـ كان هو (أول من صرف دعوة العبيديين إلى غيرهم من بني العباس، وأزال أسماءهم من السكة في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة(6) ولا شك في أن انتقال عاصمة الفاطميين من تونس إلى القاهرة فصل عنهم أمراء البربر تدريجيا(7).
إذا تجاوزنا هذه النهاية التي أصابت الدولة الفاطمية في المغرب العربي، والتي لم تنجح (الحملة الهلالية) ـ التي رمت بها الخلافة الفاطمية في المغرب العربي، والتي لم تنجح (الحملة الهلالية) ـ التي رمت بها الخلافة الفاطمية المغرب ـ في إعادته إلى حظيرتها، بالرغم من نجاحها في الانتقام من المعز. إذا تجاوزنا هذا، وانتقلنا مع الخلافة الفاطمية إلى مقرها الجديد في القاهرة منذ 361 هـ ـ 971 م لنرى الحال التي كانت عليها هذه الخلافة ـ باعتبارها إحدى القوى الإسلامية الثلاث الكبرى في ذلك العصر، وباعتبارها أكثر الدول احتكاكا بالدولة موضوع دراستنا ـ إذا انتقلنا هذه النقلة، وجدنا أن الدولة الفاطمية في مصر، لا سيما بعد عهد المعز لدين الله الفاطمي الذي يعتبر (أعظم ملكهم قدرا وأجلهم خطرا(8)، وانتصافا بقوة العزيمة ورحابة الصدر والزهد والحلم(9) والذي (ملك بلاد المغرب بأسرها إلى البحر المحيط وبرقة والإسكندرية ثم مصر والشام والحجاز)(10) وبعض أعمال العراق وجزء من البحر الأبيض حتى الأتلانتيك من ناحية أخرى(11) كما أنه في عهده (بلغت القاهرة من الازدهار والعز شأوا بعيدا)(12).
إذا عبرنا هذه الحقبة القصيرة، ونظرنا إلى هذه الخلافة في مقرها الجديد بعد سنوات قلائل من موت المعز، وجدناها بدأت تدخل في دور انحطاط، ظهر واضحا منذ عهد الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور المتوفي سنة 411 هـ (1202 م)، فإن سياسة هذا الخليفة التي اتسمت بالشذوذ والاضطراب والتناقض في الأخلاق حتى أنه كان يأمر الشيء وينهى عنه(13) نتيجة سوء المزاج المرضي في دماغه(14) ـ هذه السياسة، فضلا عن كونها تعكس صفات شخصيته له ـ كانت تعكس اضطرابا واضحا بدأ يظهر في السياسة الفاطمية. لقد كانت للحاكم أعمال جيدة في مجال حماية الأخلاق: كمنع شرب الخمر، وصناعة البيرة المسماة فقاع، وتحريم دخول الحمام بغير مئزر، ومنعه اللهو العلني، وإفراده لأهل الذمة حمامات، ومنعه النساء من الخروج(15) كما أنه أصدر قرارات جيدة تعالج أوضاعا اقتصادية أو اجتماعية كأمره بمنع ذبح البقر الولود توفيرا للإنتاج الحيواني(16) وكحماية أموال اليتامى(17) وإلغاء كثر من المكوس التي ابتدعت(18). لكن هذه الأعمال الجيدة لا تنفي عن الحاكم صفة الإضطراب والسياسة الغير المستقرة، لدرجة أزعجت الناس أيما إزعاج، وحولت عهده إلى عهد دموي.
وفي معظم سنوات حكمه تتصدر أخبار قتل كثير من الناس ومن بينهم أخص المتصلين به أخبار سنوات حكمه، فضلا عن الإضطرابات الأخرى التي لا يقوم تبريرها على أسس قوية، وقد اضطر الحاكم نفسه إلى إصدار أمانات أكثر من مرة لتطمين الناس بعد أن أصابهم اليأس في عهده(19)، وتدل حادثة قتله للجرجرائي الكاتب (غين) مساعدة بطريقة فيها كثير من السخرية والتذبذب، على عقليته المضطربة(20).
ويلخص الدواداري رأيه في الحاكم، بأنه كانت له محاسن في ابتداء أمره، ومساوئ صدرت عنه هي الجنون بعينه من خرافات دنيوية ودينية، ثم سرد محاسنه ومساوئه بالتفصيل(21) ـ كما لخصناها ـ ويحكي لنا المؤرخ جمال الدين أبو المحسن يوسف بن تغري بردي المتوفى سنة 874 هـ في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، والإمام الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ في كتابه تاريخ الخلفاء وغيرهما نماذج من سلوك هذا الخليفة، تعكس هذا الاضطراب الذي ذكرناه آنفا...
ففي سنة 395 هـ (1004 م) قتل الحاكم بمصر جماعة من الأعيان صبرا، وقتل من العلماء والكتاب والأمائل ما لا يحصى، وأمر بكتابة سب الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة وغيرهم على أبواب المساجد والشوارع ثم محا ذلك في سنة 397 هـ (1006 هـ).
وفي سنة 396 هـ (1005 م) أمر الناس بمصر والحرمين إذا ذكر الحاكم أن يقوموا ويسجدوا في السوق وفي مواضع الاجتماع...
وفي سنة 398 هـ (1007م) هدم الحاكم بيعة قمامة التي بالمقدس وأمر بهدم جميع الكنائس التي بمصر...وفي سنة 402 هـ (1011 م) نهى الحاكم عن بيع الرطب وحرمه وعن بيع العنب، وأباد كثيرا من الكروم. وفي سنة 404 هـ (1013 م) منع النساء من الخروج(22)
كانت هذه الاضطرابات ترجع إلى المزاج الشخصي للحاكم ـ إلى حد كبير ـ فإنها كانت عاملا مهما في تقويض دعائم الخلافة الفاطمية، وفي تفكير بعض الدول التابعة لها في محاولة الخروج عليها. و لم يستطع الخلفاء الفاطميون الذين جاءوا بعد الحاكم إعادة كيان الدولة إلى المستوى الذي كانت عليه على عهد المعز لدين الله الفاطمي. فإن الطاهر (أبو الحسن علي بن الحاكم بأمر الله) الذي، ولى أمر الخلافة الفاطمية بعد موت أبيه الحاكم، لم يكن أكثر من صبي تشرف عليه عمته ست الملك(23). طيلة خمس سنوات من حكمه، وأما سنواته الباقية، فقد كانت حافلة بصراع بين المغاربة والأتراك(24)، وبالفقر والغلاء(25)، فضلا عن انشغاله بملاذه ونزهه وسماع المغنى(26).
ولم تكن أيام المستنصر (أبو تميم معد بن الطاهر) الذي ولى الأمور سنة 427 هـ (1053 م) أفضل من أيام سابقيه كثيرا، بيد أن فترة حكمه قد استمرت ستين سنة وأربعة أشهر ( 427-487هـ) فتتابعت بالتالي عليها الظروف المتبادلة، وتقلبت أحوال مصر بين الشدة والرخاء والضعف والقوة (غير أن مصر لم تتمتع طوال هذه المدة بالرخاء والطمأنينة غير فترة قصيرة)(27)
وعندما كان المستنصر في سن التاسعة عشر ( 439 هـ) ـ أي في السنة الثانية عشرة من خلافته ـ زار ناصر خسرو مدينة مصر، ووصف ما رآه من أحوالها، وحكى عديدا من صور الثراء.
فيها(28)، وذكر أن أهل مصر في غنى عظيم (...) يثقون بالسلطان فلا يخشون الجواسيس ولا الغمازين، معتمدين على أن السلطان لا يظلم ولا يطمع في مال أحد)(29).
لكن لم تمض على زيارة خسرو لمصر أكثر من خمس سنوات، حتى انقلبت حال مصر إلى أسوأ حال ـ ولأكثر من أربعين سنة من مدة خلافة المستنصر، اضطربت أحوال مصر بدرجة كبيرة.
في سنة 444 هـ (قصر مد النيل، ولم يكن في المخازن السلطانية شيء من الغلال ـ فاشتدت المسغبة بمصر(30)) (و في سنة 446) نزع السعر ووقع البلاء، واشتد الأمر على الناس(31). وقد كانت هذه السنة بداية ما عرف في تاريخ المستنصر بالشدة العظمى (246-454 هـ) التي
( حدث فيها الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين، حتى أكل الناس بعضهم بعضا، حتى قيل: أنه بيع رغيف واحد بخمسين دينارا، وحتى أن المستنصر بقي يركب وحده، وخواصه ليس لهم دواب يركبونها، وإذا مشوا سقطوا من الجوع)(32) ولم تنته موجة الانهيار الاقتصادي بانتهاء الشدة العظمى، بل استمرت بصورة ما إلى سنة 466 هـ(33) مما اضطر المستنصر إلى استدعاء بدر الجمالي، والتخلي ـ ضمنيا ـ عن الحكم، والاكتفاء بصورة الخلافة.
ويذكر المقريزي أن سبب ما حصل لمصر نقص النيل(34)، واختلاف الكلمة ومحاربة الأجناد بعضهم مع بعض(35).
والحقيقة أن ما حدث لمصر أيام المستنصر كان حصاد عوامل كثيرة، منها سياسة الحكام الفاطميين منذ الحاكم، ومنها الصراع الفكري الذي دار في البلاد بين الفاطميين الذين حاولوا فرض مذهبهم، والناس الذين أرغموا على التظاهر بما لا يعتقدونه، ومنها الصراع الذي بدا كعملية طبيعية بين الفاطميين والعباسيين في بغداد بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرها المقريزي والتي تمثل أبرز العوامل المباشرة في الانهيار.
وقد ظلت السلطة الفعلية ضائعة من أيدي الخلفاء الفاطميين، وظلوا يتتابعون كالدمى في أدي الوزراء العظام الذين كان أولهم أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني المتوفى سنة 487 هـ، وزير مصر للمستنصر بل صاحب أمرها وعقدها وحلها(36) حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فلم يلق أية مقاومة حقيقية في القضاء على هذه الخلافة المتداعية سنة 567 هـ (1171م).
وإذا كانت هذه هي الصورة للخلافة الفاطمية خلال الحقبة التي تؤرخ لها، فإن الخلافة العباسية لم تكن أسعد حالا من رصيفتها، بل كانت أكثر سوءا وانحلالا.
لقد تسلط البويهيون على خلفاء الدولة العباسية، بحيث انتزعوا منهم أدنى وظائف الحكم وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة البويهي(37)) وإلى خلفائه البويهيين من بعده. ولقد خلع البويهيون الخليفة المستكفي بعد تسلمهم الحكم وقد سلوا عينيه، وأودعوه السجن(38) وقد أصبح هذا نهجهم مع الخلفاء طيلة عهدهم الذي سيطروا فيه على الخلافة العباسية.
إن الخليفة الثالث والعشرين من سلسلة خلفاء بني العباس (المطيع لله أبا العباس الفضل بن المقتدر) الذي ولى الخلافة سنة 334 هـ (39)وبقي فيها حتى خلع نفسه سنة 363 هـ( 983 م)، هذا الخليفة يصف القلشندي توليته بأنها تمت، وقد ازدادا أمر الخلافة أديارا، ولم يبق للخلافة أمر نافذ، وتسلم نواب معز الدولة البويهي العراق بأسره، ولم يبق في يد الخليفة غير ما أقطعه عز الدولة مما يقوم ببعض حاجته(40)، وأما الخليفة الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس الطائع لله، أبو بكر عبد الكريم بن المطيع ( 363 – 381 هـ) (973-991) الذي ظل في منصب الخلافة قرابة ثمانية عشر عاما... هذا الخليفة يتحدث عنه القلقشندي فيذكر أنه بدوره لم يكن في ولايته ما يستدل به على حاله(41).
وتنتهي مرحلة خلافة الطائع هذا بنهاية محزنة تعكس القيمة الحقيقية لهذا المنصب الخطير في هذا العهد من عهود الاضطراب والفوضى، فإن الأمر في الحقيقة على عهد الطائع كان بيد ركن الدولة ابن بويه وأولاده بفارس، وكان ابن أخيه (بختيار) ـ حاكم واسط ـ يمثل الحاكم الفعلي في العراق، لكم عضد الدولة ابن ركن الدولة أنكر على ابن عمه هذه المكانة، وصرفه بالقوة عن مكانته... لكن هذا التصرف لم يرض ركن الدولة ابن بويه فأرسل يهدد ابنه الذي اضطر إلى إعادة (بختيار) إلى مكانته. وبقي الأمر كذلك حتى مات ركن الدولة البويهي، وخلفه ابنه عضد الدولة على بلاد فارس، كما أن ركن الدولة كان قد عقد لابنه فخر الدولة على همدان ولإبنه مؤيد الدولة على أصفهان وأعمالها ـ هكذا، وكأنه هو الخليفة الفعلي ـ ، على أن ابنه عضد الدولة قد عاوده حقده القديم على ابن عمه (بختيار) الملقب بعز الدولة، فتمكن من قتله سنة 367 هـ (977م)، وعمره ست وثلاثون سنة(42)، واستقر عضد الدولة في تدبير أمور الخلافة ببغداد إلى أن مات سنة 373 (983 م)، وولى الأمر بعده ابنه صمصام الدولة (أبو كاليجار) الذي كان نصيبه السمل، فتولى الأمر ابن آخر لعضد الدولة يدعى شرف الدولة إلى أن توفي فاستقر في الإمارة أخوه أبو نصر بهاء الدولة ـ وكالعادة ـ خلع عليه الطائع وقلده السلطنة.
لكن بهاء الدولة طمع في أموال الخليفة الطائع له، فسلط عليه بعض الديلم الذين أرغموه عل خلع نفسه سنة 381 هـ(43).
ولم يختلف الأمر في عهد المقتدر ابن العباس الذي ولاه البويهيون بعد الطائع، وعلى الدرب نفسه سارت الأمور على عهد أبي جعفر عبد الله المعروف (لقائم) الذي ولى بعد المقتدر سنة 422 هـ (1031 م) وبقي رمزا باهتا للخلافة إلى سنة 467 هـ (1074 م) على الرغم من أنه كان (ورعا) زاهدا عالما قوي اليقين بالله كثير الصبر، له عناية بالأدب ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرا للعدل والإنصاف وقضاء الحوائج، لا يرى المنع من شيء طلب منه(44). ولم تلبث دولة البويهيين التي عاشت قرنان من الزمن أن تحللت نتيجة الصراع الداخلي على السلطة بين أبناء عضد الدولة البويهي. وحينئذ قدر على الخلفاء العباسيين الضعاف أن يقعوا تحت سيطرة الأتراك السلاجقة الذين بدأوا يقومون بنفس الدور الذي كان يقوم به البويهيون، وكان ذلك قرابة منتصف القرن الخامس الهجري447 هـ ـ 1055 م)(45).
هؤلاء الخلفاء العباسيون الضعاف الذين يعيشون عيشة قلقة في ظل عناصر متصارعة طموحة، وأولئك الخلفاء الفاطميون الضعاف الذين يعيشون في ظل ( وزراء عظام) يشكلون بدورهم عناصر متصارعة طموحة،... هؤلاء وأولئك كان يدور باسمهم صراع آخر عقائدي بشكل بدوره سمة من سمات العصر، وواحدا من عوامل القضاء عليهما معا، ولا تكاد تنظر في حوادث سنة من سنوات هذه الحقبة إلا وتجد أن فيها (كانت فتنة بين أهل السنة والرافضة)(46) وابن تغرى بردي يظهر دهشته حين يعرض حوادث سنة 442 هـ (1050 م) فيذكر أنه ( كان من العجائب أنه وقع الصلح بين أهل السنة والرافضة(47)) لكنه يعود في السنة التالية 443 هـ (1051م) فيذكر أن فيها (عادت الفتنة بين أهل السنة الرافضة)(48). وبينما كانت الدعوة الشيعية تقابل بحرب عنيفة في المغرب العربي الذي كان مقرها الأول قبل سنة 361 هـ (971 م)، وبينما كانت مصر والشام والحجاز تواجه الحرب الدعائية المختلفة الأساليب التي يشنها الحجاز الفاطمي، بينما هذا، كان البويهيون ذوو النزعة الشيعية والتبعية للمذهب الزيدي الشيعي يعبثون بخلفاء العباسيين السنيين في بغداد(49).
فعلى امتداد الأرض الإسلامية الواقعة تحت حكم هاتين الخلافتين، كان الصراع السني الشيعي ـ وبداخل كل منه مجموعة صراعات مذهبية أخرى ـ يلعب دورا خطيرا في تدمير الحياة السياسية والاجتماعية، وكاد يودي بخلافة العباسيين المريضة في بغداد، قبل موتها بأكثر من قرنين من الزمان، لولا ظهور الأتراك السلاجقة وقائدهم طغرل بك سنة 447 هـ (1055 م)... هؤلاء الذين اعتبروا ـ بحق ـ المعجزة التي أنقدت خلافة العالم الإسلامي الكبرى ـ إلى حين ـ من سقوط محقق.
أضف إلى هذين اللونين من الصراع لونا تقليديا هو الصراع بين الأجناس المختلفة التي وسعها بعد خروجه من الجزيرة العربية، فهناك العرب والبربر والترك والفرس، وكل عنصر من هذه العناصر يكون بداخله كذلك عناصر متصارعة، تتنازع على السلطة أو العقيدة (فلم يكن هناك امتزاج كاف بين الفرس الإيرانيين والترك الطررانيين، والبربر الحاميين، وبين العرب الساميين، لتتكون منهم أمة متجانسة موحدة، بل ظلت هذه العناصر المختلفة بلا رابطة متينة تحكم الوثاق بينها(50).
وأما الجناح الآخر (الأندلسي) فلم يكن حاله أحسن حالا، وهو ما سنذكره بإذن الله في الحلقة التالية.
1-كانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبد الله الشيعي الذي كان من المشرق (الكامل لابن الأثير ج 9 ص 295 طبعة دار صادر ببيروت 1967 ولا زال إخواننا المغاربة يطلقون كلمة المشارقة على المصريين والسوريين والفلسطينيين دون تمييز.
2 - انظر عن جهود أبي عبد الله وأساليبه وأساليب الشيعة من بعده البيان المغرب لابن عذارى 1/166، وما بعدها، 220، 226 طبعة دار صادر بيروت.
3 - رياض النفوس للمالكي 23 (مقدمة) دكتور حسين مؤنس مكتبة النهضة المصرية الطبعة الأولى.
4 - المرجع السابق ص 99.
5 - وتاريخ الدولة الفاطمية في المغرب ومصر وسورية وبلاد العرب للدكتور حسن إبراهيم ص 344، 355 ط 2 مكتبة النهضة المصرية وأنظر في تفصيل هذه الحادثة الكامل لابن الأثير حوادث سنة 407 والعبر لابن خلدون المجلد 6 ص 325 منشورات دار الكتاب اللباني للطباعة والنشر 1968.
6 - أعمال الأعلام ج 3 لسان الدين بن الخطيب تحقيق د. احمد العبادي والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني ص 73 نشر دار الكتاب بالدر البيضاء 1964.
7 - الإسلام هنري ماسية ترجمة شعبان منشورات دار عويدات بيروت ص 82.
8 - أعمال الأعلام3/55.
9 - المعز لدين الله د. حسن إبراهيم وطه شرف 19، 287، 288 ط 2 مكتبة النهضة المصرية 1963.
10 - المرجع السابق ص 58.
11 - العرب ـ تاريخ موجز فيليب حتى ص 223 دار القلم للملايين ط 4 ـ 1968، والإسلام هنري ماسية ص 82.
12 - الخطط المقريزية لأحمد بن علي المعروف بالمقريزي ص 167.
13 - المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ص 68 لابن أبي دينار، تحقيق محمد شمام، المكتبة العتيقة بتونس 387، وانظر العرب والعروبة ج 3 الأستاذ عزة دروزة ص 410، 411 دار اليقظة العربية 1960.
14 - الحاكم بأمر الله، الأستاذ محمد عنان مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ط 2 سنة 1959 ص 167.
15 - نظم الفاطمية ورسومهم في مصر، دكتور عبد المنعم ماجد ـ مكتبة الأنجلو المصرية 1953، ص 167.
16 - اتعاظ الحنفا ج 2 للمقريزي، تحقيق الدكتور محمد حلمي احمد ص 14 (مقدمة)، طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
17 - المرجع السابق ص 21، 23.
18 - المرجع السابق ص 16 (مقدمة) والكتاب ص 74، 102.
19 - أنظر اتعاظ الحنفا ج 2 ص 77 (سنة 399).
20 - اتعاظ الحنفا ج 2 ص 102.
21 - كنز الدر ج 6، تحقيق صلاح الدين المنجد، طبع القاهرة سنة 1961، صفحات 257، 258، 259، 260.
22 - أنظر النجوم الزاهرة ج 4 ص 176 وما بعدها نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 414 وما بعدها، طبع مطبعة السعادة، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 1952. وانظر تاريخ مختصر الدول لابن العبري ص 180 وما بعدها، وانظر الكامل لابن الأثير ج 9 ص 315، 316، 317، وانظر البداية والنهاية 9/411، وانظر تاريخ الدولة الفاطمية دكتور حسن إبراهيم صفحات 219، 220، 222، 223، 225.
23 - أنظر اتعاظ الحنفا 2/125.
24 - المرجع السابق ص 177.
25 - المرجع السابق صفحات: 164، 165، 169، 170، 171، 180.
26 - المرجع السابق ص 182.
27 - تاريخ الدولة الفاطمية في المغرب ومصر وسوريا وبلاد العرب، دكتور حسن إبراهيم ص 169.
28 - سفر نامة، ترجمة الدكتور يحي الخشاب ط 1 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ص 62، 63،64.
29 - المرجع السابق ص 62.
30 - اتعاظ الحنفا 2/224.
31 - المرجع السابق ص 226.
32 - أنظر اتعاظ الحنفا 2/279 وما بعدها، 296 وما بعدها، وانظر إغاثة الأمة يكشف الغمة للمقريزي طبعة سنة 1940 م القاهرة ص 24، وأنظر النجوم الزاهرة لابن تغري بردي نسخة مصورة من طبعة دار الكتب 5/ ص2.
33 - أنظر اتعاظ الحنفا ص 279و 296 و307.
34 - إغاثة الأمة ص 18
35 - اتعاظ الحنفا 2/299، والنجوم الزاهرة 5/17.
36 - الكامل لابن الأثير طبعة صادر بيروت ج 10 ص 589 والنجوم الزاهرة 5/141.
37- أنظر البداية والنهاية لابن كثير، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف 1966 ج 11 ص 212.
38 - البداية والنهاية 11/212.
39 - الكامل ل بن الأثير 8/451 والبداية ولنهاية ج 11 ص 212.
40 - الكامل 8/ 452 ومآثر الأناقة في معالم الخلافة للقلقشندي، تحقيق عبد الستار الفراج ج 1 ص 303، وزارة الإرشاد بالكويت 1964.
41 - مآثر الأناقة 1/311.
42 - وفيات الأعيان لابن خلكان 1/242 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية 1948.
43 - أنظر الكامل 9/79، 80 – انظر مآثر الأناقة ج 1 ص 312 وما بعدها، انظر البداية والنهاية لابن كثير ج 11 /308، وانظر كنز الدرج ج 6 ص 228 للدواداري، تحقيق صلاح الدين المنجد، طبع القاهرة 1961.
44 - الكامل لابن الأثير ج 10 ص 95، وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 417.
45 - البداية والنهاية 112/66.
46 - النجوم الزاهرة ج 5 ص 47، وانظر البداية والنهاية 12/31، 134.
47 - النجوم الزاهرة ج 5 ص 49، وانظر في ذلك دار المكنون مخطوط بمكتبة الكويت المركزية ص 162 والبداية والنهاية 12/61.
48 النجوم الزاهرة ج 5 ص 50، وانظر الكامل 9/575، والبداية والنهاية 12/62.
49 - فكر معز الدولة البويهي غير مرة في تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة علوية...لكن المخلصين له منعوه من ذلك وقد كان يأمر بكتابة لعن معاوية ويزيد وعثمان على أبواب المساجد. انظر في ذلك الكامل لابن الأثير 8/452، 542 والبداية والنهاية ج 11 ص 212، وقد خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بنفس الطريقة التي خلع بها الطائع فيما بعد (الكامل 8/450).
50 - العرب تاريخ موجز فيليب حتي ص 202.
0 Comments
No comments yet.
Leave a Comment
© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso