الإعجاز التشريع في القرئان -١
30-04-2024
Web Design
15 Comments
الإعجاز التشريعي في القرآن-١
- الإعجاز في القرءان لا تعد ولا تحصر:
فإنَّ القرآن الكريم هو الكتاب الخالد، والمُعجزة التي تَمتاز على سائر المُعجزات بأَبَديَّتها على مرِّ العُصُور، وتتابُع الأجيال. وإنَّ جوانبَ الإعجاز في القُرآن المَجيد لتجلُّ عن الحصر، لأن الله يقول لما يتحدي 'بمثل هذا الكتاب' ، 'لا يأتون بمثله' حيث يقول: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]؛ فإعجازُه في أساليبه وتراكيبه، ومَعانيه وتصويره، وحُججه وبَراهينه، وأخباره وأحكامه وتشريعاته، وهدايته وإرشاده كله مما علمنا وما لم نعلم.
- والإعجاز في القرءان لا تنفذ:
إنَّ وجوه الإعجاز في هذا الذِّكْر الحكيم لا تُحَدُّ ولا تنفد عَبْر الزمان، بل إنَّها تتَّسع باتِّساع العُلُوم والمعارف: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾ [فصلت: 53 - 54].
- معنى الإعجاز في اللغة:
العَجُز بضَمِّ الجيم: مُؤخر الشَّيء، وجَمعُه: أعجاز، والعجز الضَّعف، وأعجزه الشيء: فاته، وعَجَّزته تعجيزًا: ثبَّطته، ونسبته إلى العجز[مختار الصحاح (ع. ج. ز)، (ص:413)].والعجز: أصلُه التَّأخُّر عن الشيء، وحُصُوله عند عَجُز الأمر، أيْ: مُؤخره، وسار في التعارف اسمًا للقُصُور عن فعل الشَّيء، وهو ضد القدرة[المفردات، للراغب، كتاب العين، (ص:322)]. وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾[الحج: 5]؛ وقرئ (مُعَجِّزِين)[قراءة ابن كثير وأبو عمرو]، فمعاجزين - قيل معناه -: ظالمين ومُقدرين أنَّهم يُعاجزوننا؛ لأنَّهم حسبوا أن لا بَعْثَ، ولا نشور.
- معنى التشريع في اللغة:
الشَّرع في اللغة: مصدر شَرَعَ بالتخفيف، والتَّشريع مصدر شرَّع بالتشديد، والشَّريعة في أصْل الاستعمال اللُّغوي: مَورد الماء الذي يقصد للشُّرب، ثُم استعملها العربُ في الطريقة المستقيمة، وذلك من حيثُ إنَّ الماء سبيلُ الحياة والسلامة، ومثل ذلك أيضًا الطريقة المستقيمة، التي تهدي النُّفوس فتحييها.قال الراغب: "الشَّرع: نَهجُ الطَّريق الواضح، يُقال: شرعت له طريقًا، والشَّرعُ مصدر، ثُم جُعِل اسمًا للطَّريقِ النَّهْجِ، فقيل له: شَرَعَ، وشَرْع وشَرِيعة، واستعير ذلك للطَّريقة الإلهيَّة" [كتاب الشين، للراغب، (ص: 258)].
- معنى الإعجاز التشريعي في القرآن:
هو إثباتُ عَجْز البشر جميعًا عن الإتيان بِمثل ما جاء به القُرآن من تشريعاتٍ وأحكام، تَتَعلَّق بالفرد والأُسْرة والمجتمع في كافَّة المجالات.
- المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي في القرآن:
وليس المُرادُ من الإعجاز التَّشريعي هو مُجرد إثبات الإعجاز، وإنَّما المُراد منه لازمه، وهو إثْبات صِدْق النَّبي صلَّى الله عليه وسلم وبيان كون القُرآن من عند الله عَزَّ وجل: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:١٢].
- أولا شمول القرءان على مقاصد الحياة الإنسانية مع تحقيق العدل المطلق:
إنَّه من الأدلَّة والبراهين القاطعة على الإعجاز التَّشريعي في القرآن اشتمالُ القُرآن المجيد نفسه على المَقاصد الأساسيَّة، والقواعد الكُلِّية للشريعة الإلهيَّة، التي تُنظِّم كلَّ شؤون الحياة، وفي الوقت نفسه تُحقِّقُ العَدْل التَّام بين الجميع، بقطع النظر عن الانتماءات الدينية أو العرقية أو غيرها، وهذا بالقطع لا يدخلُ تَحت استطاعة أحد من البشر كائنًا من كان.
ومِمَّا يدُلُّ على الإعجاز التشريعي في القرآن التشريع نفسه لأنَّ العرب كانوا أمَّة أمِّية لم تكن لهم ثقافة، ولم يكونوا يعرفون إلاَّ التَّحاكم إلى العِرْق القبليِّ وقتَ نُزُول القرآن المجيد على النَّبي صلَّى الله عليه وسلم فهذا ولا رَيب هو الإعجاز ذاته. ذلك أنَّه من الأُمُور البدهيَّة عند عُلماء القانون والاجتماع، أنَّ آخر ما يُتوَّج به تقدُّم أي أمة من الأمم هو تكامُل البيئة القانونيَّة والتشريعيَّة في حياتها. إذًا فظُهُور قانون مُتكامل في أمَّة من الأمم، هو الذِّروةُ العُليا لتقدمها الحضاري.
لأن الأمَّة التي لم تتقدم حضاريًّا، أو التي ما تزال تعيش في طَوْر البداوة، ليس في حياتها من التعقيد الاجتماعي ما يُشعر بالحاجة إلى وَضْع قانون عام، ولكنَّها تشعرُ بذلك كلَّما تقدمت حضاريًّا، وازداد تركيبُها الاجتماعي تعقيدًا. إلاَّ أن الذي ظهر في الجزيرة العربيَّة قبل أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، كان عكس هذا القانون البَدَهي تمامًا، فقد ظهر فجأة بين تلك الجماعات البدائيَّة قانون متكامل، يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية، ويرسم صُورة للعلاقات الدَّوليَّة، ويضع نظامَ الحرب والسلم، ويضع نظامًا للعلاقات الماليَّة والسياسيَّة وهكذا، تشريعٌ مُتكامل لا يَترك من أُمُور الحياة صغيرة ولا كبيرة إلاَّ عالَجها وقنَّن لها، هذا في الوقت الذي كان فيه عَرَب الجزيرة لا يعرفون شيئًا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، فلم يأْخُذُوا بنصيبٍ وافر من العلم أو الحضارة، مِمَّا يعد خُطُوات أساسية لا بُدَّ من اجتيازها قَبْل وضع القانون العام[المعجزة والإعجاز في القرآن، د/سعد الدين صالح، (ص: 219 - 220)]؛ فهذا التشريع الذي اشتمل عليه القرآن المَجيد وَجْه من وُجُوه إعجازه، وهو الذي جعل من المسلمين الأوائل أُمَّة لا نظيرَ لها في التاريخ، فقام المجتمع المِثالي، وأقيمت المدينة الفاضلة التي طالما خامَرَت عُقُول كثير من المُفكِّرين والمُصلحين على مَدَى تاريخ البشريَّة الطويل.
إنَّ القُرآن الكريم يبدأ بتربية الفرد؛ لأنَّه لَبِنة المجتمع، ويقيمُ تربِيته على تَحرير وُجدانه، وتحمله للتبعة؛ يُحرِّر القُرآن الكريم وُجدانَ المسلم، بعقيدة التَّوحيد الذي يُخلصه من سُلطان الخرافة والوهم، ويفكُّ أسْرَه من عُبُودية الأهواء والشَّهوات، حتى يكون عبدًا خالصًا لله. وإذا صحت عقيدة المسلم كان عليه أن يأخذ شرائع القرآن في الفرائض والعبادات، وكل عبادة مَفروضة يُرادُ بها صلاحُ الفرد، ولكنَّها مع ذلك ذات عَلاقة بصلاح الجماعة[مباحث في علوم القرآن، د/ مناع القطان، (ص: 278)]، ومن تربية الفرد ينتقل الإسلام إلى بناء الأُسْرة؛ لأنَّها نواة المجتمع، فشَرَع القُرآن الزَّواج؛ استجابة للغريزة الفطريَّة، وإبقاءً على النَّوع الإنساني في تناسُل نظيف.
ويقوم رباط الأسرة في الزَّواج على المودَّة والرحمة؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]؛ قال ابن كثير: ﴿ مَوَدَّةً ﴾ وهي المحبة، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ وهي الرَّأفة، فإنَّ الرَّجُل يُمسك المرأة، إمَّا لمحبة لها، أو لرحمة بها، بأنْ يكون لها منه ولد، أو لحاجة إليه في الإنفاق، أو للأُلْفة بينهما، وغير ذلك[تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/429)].اهـ. وأوجب أنْ تكونَ عِشرة الرجال لهن بالمعروف؛ فقال: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 79]، وهو النصفة في المبيت، والنَّفقة، والإجمال في القول[تفسير مفاتح الغيب، الرازي، (9/12)]. وللرِّجال حُقُوق، وللنِّساء حقوق قرَّرها القرآن المجيد؛ فقال سُبحانه: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].
وعن قضيَّة تعدُّد الزوجات، التي يُحاول أن يستغلَّها بعض المُشككين والمغرضين، فإنَّ الإسلام لم يُنشئ قضية التَّعَدد، التي كانت معروفة وسائدة في المجتمعات السابقة قبل نُزُول القرآن، الذي رخَّص فيه وقيَّده بشرط العدل، وحذَّر أشد التحذير من الظُّلم أو الجور، بل أَمَرَ بالاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل؛ ويدُلُّ على ذلك ما رُوي من أنَّ غيلان بن سَلَمة الثَّقفي[صحابي أسلم بعد فتح مكة، أحد وجوه ثقيف، كان شاعرًا محسنًا، توفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، انظر: أسد الغابة، (43/44)] رضي الله عنه أسلم وله عَشْر نسوة في الجاهلية، فأسْلَمْن معه، فأمره النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - أَنْ يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ[أخرجه الترمذي في سننه في كتاب النِّكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة، (4/92)]، علمًا بأن المجتمعات غير المسلمة المباح فيها هو التعدد المُحرَّم؛ فالتعدُّد في المجتمعات الإسلاميَّة تعدد مُقيَّد بشروط، وهو في إطار سياج من الخُلُق والفضيلة، والتعدد في المجتمعات غير المسلمة تعدد غير مقيد بقيود، بل هو بعيد عن الأخلاق والفضيلة، وبعيد عن إطار الحياة الزَّوجيَّة.
وفي القرآن الكريم يقومُ الحكم على أُسُس العدل التام، والمساواة، والشورى، وكلِّ ما من شأنه أن يحفظَ سلامة المجتمع، ويُحافظ على أمنه واستقراره؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى ﴾ [الشورى: 38]، ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
ومن أجل صيانة المُجتمع وسلامته، يُقرِّر التشريع القرآني الحفاظَ على الكليَّات الخمس وهي:
1- النفس.
2- العقل.
3- العرض.
4- الملكية.
5- النظام العام.
ومن أجل الحفاظ على هذه الكلِّيَّات الخمس، التي تتَّفق كلُّ المجتمعات على صيانتها والحفاظ عليها، حذَّر القرآن الكريم من الاعتداء عليها، وَوَضَع ما يُعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات أو الحدود.
الكلِّيَّات الخمس
الحفاظ على النفس:
لقد كرَّم القرآن الإنسان، وبيَّن أنه خليفة الله في الأرض، وحرَّم قتل الإنسان لنفسه؛ لأنَّها ليست ملكًا له، إنَّما هي ملك لله وحدَه؛ فقال: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]. كما شَرع القِصاص وجعله ظرفًا للحياة في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطًَا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 92]. فالتَّعدي على النَّفس الإنسانيَّة في التشريع الإسلامي من أخطر الجرائم؛ لأنَّ الإسلام أعلى من شأن الإنسان؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، ومن ثَمَّ فقد شدد في العُقُوبة على من يعتدي على حياة غيره بغير حق.
ولا شَكَّ أنَّ رحمة الله عظيمة بفرضه القِصاص؛ لأنَّ من يهمُّ بقتل غيره وهو يعلم أنَّ في ذلك هلاكَه سوف يتردَّد، أو لا يُقْدم على هذه الجريمة الشنعاء؛ خوفًا على حياته. وكذلك من يريد الاعتداء على الآخرين أو النَّيْل منهم، حينما يعلم عُقُوبة القصاص، فلا شك أنه سوف يُفكر قبل اقتراف الجريمة؛ لأنَّ القصاص عقاب رادع، وقد بيَّن القرآن الكريم أن القصاص أيضًا مما شرعه الله سبحانه وتعالى وأنزله في التَّوراة؛ فقال الله سبحانه: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45].
الحفاظ على العقل:
ومن أجل الحفاظ على العقل الذي هو مَناطُ التَّكليف في الإسلام، وأكبر نعمة أنْعَمَ الله بها على الإنسان - حرَّم القرآن الكريم شُرْب الخمر؛ لقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النساء: 90]. وقد كان تحريمُ الخمر بتدرج ونوازل كثيرة؛ فإنَّهم كانوا مُولعين بشُربها، وأول ما نزل في شأنها: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 219]، أيْ: في تجارتهم؛ فلمَّا نزلت هذه الآية تَركها بعضُ النَّاس، وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثْمها، فنَزَلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، فتركها بعضُ الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشَربَها بعضُ الناس في غير أوقات الصلاة حتَّى نزلت: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ ﴾ [المائدة: 90]؛ فصارت حرامًا عليهم حتَّى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشدَّ من الخمر.
وقال أبو ميسرة: "نزلت بسبب عُمر بن الخطاب؛ فإنَّه ذكر للنَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - عُيُوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها، وقال: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا؛ فنَزَلت هذه الآيات؛ فقال عمر: انتهينا انتهينا". اهـ[الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، (4/2283)].
الحفاظ على العرض:
ومن أجل الحفاظ على العرض، شَرَع القرآن الكريم حدَّ الزِّنا في قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[النور: 2]، هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين، أن يجلد كلٌّ منهما مائة جلدة بخلاف الزَّاني المحصن، أو الزَّانية المُحصنة، فقد دلَّت السُّنة الصحيحة على أنَّ الحدَّ لكل منهما هو الرجم[صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الحدود، باب حد الزِّنا، (5/267)].
ومن أجل الحفاظ على العرض أيضًا شرع القرآن الكريم حدَّ القذف في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾[النور: 4]، وفي الوقت نفسه أمر القرآن الكريم بغَضِّ البصر، ونَهى عن إبداء ما لا يجوز إبداؤه من الزينة في قوله سبحانه: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
الحفاظ على الملكية:
ومن أجل الحفاظ على الملكية شَرَع القرآن الكريم حدَّ السرقة في قوله سبحانه: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38]؛ ذلك أنَّ السَّرقة نزعة شريرة ربَّما تحمل صاحبها، أو تَجرُّه إلى ارتكاب جرائم شنعاء في سبيل الاستيلاء على مال الغير، بدافع من خبث الطبع، أو فساد المنشأ، وسوء التَّربية.
وقد تؤدي هذه النَّزعة الشِّريرة عند بعض المُجرمين إلى تكوين عصابات من الأشرار، تعبثُ بالأمن في كثير من الدُّول، وقد تسطو على أموال البُنوك وخزائن الحُكومات، وتُخرِّب وتدمر ما شاء لها التَّدمير والتخريب. من أجل هذا كانت هذه العُقُوبة الرَّادعة لكلِّ من تُسول له نَفسُه العدوان على مال الغير، وقد رأينا كيف أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزوميَّة؛ فعَنْ عَائشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ قُرَيْشًا أهمَّتهُم المرْأَةُ المخْزُومِيَّةُ التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلاَّ أسامة بنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم فقَال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قبلكم؛ أنَّهم كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تركوه، وإذا سرق الضَّعِيفُ فِيهِم أقامُوا عليْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله، لو أَنَّ فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمدٌ يَدَهَا))[أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السُّلطان، (12/87 - رقم الحديث: 6788)، فتح الباري].
الحفاظ على النظام العام:
ومن أجل الحفاظ على النِّظام العام، وضَمَان أمْن المُجتمع واستقراره، شَرَعَ القرآن الكريم حدَّ الحرابة في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]؛ والمُحاربُون لله ورسولِه، هم الذين بارزوه بالعداوة، وأفسدوا في الأرض بالكُفر والقتل، وأخْذِ الأموال، وإخافة السبيل.
والمشْهُور أنَّ هذه الآية الكريمة في أحكام قُطَّاع الطَّريق، الذين يعرضون للنَّاس في القرى والبَوَادي، فيغصبونهم أموالهم، ويقتلونهم، ويُخيفونَهم، فيمتنع النَّاس من سُلُوك الطَّريق التي هم بها، فتنقطع بذلك؛ فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم - عند إقامة الحدِّ عليهم - أنْ يُفعلَ بِهم واحدٌ من هذه الأمور. واختلفَ المُفسِّرون: هل ذلك على التَّخيِير، وأنَّ كلَّ قاطع طريق يَفعلُ به الإمامُ أو نائبُه ما رآه المصلحة من هذه الأُمُور المذكورة؟ وهذا ظاهرُ اللفظ، أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم، فكلُّ جريمة لها قسط يُقابلُها؛ كما تدل عليه الآية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله تعالى وأنَّهم إن قَتَلوا وأَخَذوا مالاً تَحتَّم قتلهم وصلبهم، حتَّى يشتهروا ويختزوا ويرتدع غيرهم. وإن قتلوا ولم يأخذوا مالاً تَحتَّم قتلُهم فقط، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا تَحتَّم أن تقطع أيديهم وأرجلُهم من خلاف: اليد اليمنى، والرجل اليسرى. وإن أخافوا النَّاس ولم يَقتلوا ولا أخذوا المال، نُفُوا من الأرض، فلا يُترَكُون يأوُون في بلد حتَّى تظهر توبَتُهم؛ وهذا قولُ ابن عباس - رضي الله عنه - وكثيرٌ من الأئمة، على اختلافٍ في بعض التفاصيل. ﴿ ذَلِكَ ﴾ [المائدة: 33]: النَّكال، ﴿ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ [المائدة: 33]؛ أيْ: فضيحة وعار، ﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]؛ فدلَّ هذا على أنَّ قطع الطَّريق من أعظم الذُّنوب، موجبٌ لفضيحة الدُّنيا وعذاب الآخرة، وأنَّ فاعله مُحارِب لله ولرسوله.
وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة، عُلم أنَّ تطهيرَ الأرض من المُفسدين، وتأمين السُّبل والطُّرق عن القَتل، وأخذ الأموال، وإخافة النَّاس - مِنْ أعظم الحسنات وأجَلِّ الطاعات، وأنه إصلاحٌ في الأرض، كما أنَّ ضده إفسادٌ في الأرض[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، (29/230)].
-------يتبع----------
0 Comments
No comments yet.
Leave a Comment
© www.thdarimi.in. All Rights Reserved. Designed by zainso